ثمة حقيقة سياسية يعرفها الأميركيون جيداً:"خطة سيئة أفضل من عدم وجودها". لا بدّ من أن هذه الحقيقة تتردد الآن كثيراً داخل مكاتب الإدارة الأميركية التي ما زالت معلقة في مكانها، فيما يقصر الطريق باتجاه مدينة جنيف. بنظرةٍ بعيدةٍ وعامة، يبدو الوضع مزرياً كما كان دائماً في ما يتعلق بسورية. لقد أعجز الأمر المحاورين والمحللين والسياسيين والمتحدثين، ولم تنفع معه لجان التحقيق الدولية، ورفع أمامه أول مبعوثي الأممالمتحدة كوفي أنان رايته البيضاء معتذراً، ومن ثمّ ناضل سلفه الأخضر الابراهيمي في خفاياه نضال الأبطال، وأنهى جولته الصعبة بأن رمى الكرة خارج ملعبه، موكلاً الأطراف السورية إلى رعاتها الدوليين، النظام إلى الأحضان الروسية، والمعارضة إلى الأحضان الأميركية. لكنّ نظرةً أكثر تبصّراً وحيادية تكشف أنّ الوضع السياسي يبدو مزرياً من طرفٍ واحد فقط. فالنظام السوري مطمئن ومستمر في سياسته الإقصائية، وهو مستعد للمشاركة. قام بتحديد أولوياته وخطابه ورؤيته وربما أسماء مشاركي وفده، ويمكن ? على رغم إسفاف المضمون ? أن تتنبه بسهولة إلى متانة الشكل ورصانته، ووضوح أفكاره ومباشرتها، وترتيب الأوراق والتحالفات. من جانب آخر، تبدو المعارضة غير قادرة على حسم مشكلاتها، يتصدى لمهماتها سياسيون يشبهون كلّ شيء إلا السياسة كما وصفهم تقرير مجموعة الأزمات الدولية وتلقي بهم النصائح والإملاءات والخيارات الدولية من مكان إلى آخر، من مجلس إلى ائتلاف إلى مشروع حكومةٍ أولى يجهض ثم مشروع حكومةٍ أخرى يكتمل، ومن رفض بقاء الأسد إلى القبول ببقائه. يقود هذه المعارضة مندوب الإدارة الأميركية روبرت فورد الذي لا يبدو أنّه جاد في لعب دور الوسيط، فيتصرّف كطرفٍ فعليّ، لا في الاتفاق الرئيس الضخم ذي النكهة الروسية-الأميركية، بل على مستوى اتفاقاتٍ صغرى أشد تفصيلية، تفرض كيفية تصرف كيانات المعارضة في ما بينها وأسلوب تمثيلها وطريقة عملها، والتشديد على شكل الوفد الواحد بالضرورة الذي يجب تشكيله، والرفض القاطع لفكرة الوفود المنفصلة، وتهميش أي أفكار تتحدث عن وجود وفد يمثل المعارضة المسلحة، بينما يكاد الوفد الوحيد المتفق عليه حتى الآن هو وفد الائتلاف الوطني، الذي يبدو أنّه يعاني انشقاقاً ضخماً بين جناحين متناقضين بين مقاطع ومشارك. في أفضل الاحتمالات، يخرج فورد بيدٍ واحدةٍ فارغة، بينما اليد الأخرى تمسك بنصف الائتلاف فقط. هذا النصف الآن يشقّ طريقه إلى قرطبة لإنتاج شكلٍ آخر أكثر ملاءمة لجنيف كيفما اتفق، في الوقت الذي لم يقم فيه فورد طوال أشهر مرت بأي مبادرة لجمع أطراف المعارضة المختلفة على طاولةٍ واحدة، ناهيك عن إمكانية جمعها على أجندة واحدة. فيكتفي بلقاءاتٍ فردية مع معارضين من هنا وهناك، ثمّ يطلق من التصريحات ما تيسّر. واليوم، يبدو أن طاولة قرطبة ستجمع أكثر مما تفرّق، فإما تأجيل جنيف وإما أن يعقد المؤتمر بمن حضر، وكلا الخيارين يبدو سيئاً بالنسبة الى الإدارة الأميركية، لكنّ خطّة سيئة، كما أصبح واضحاً، أفضل من عدمها. يبدأ هذا الشهر بخلافاتٍ لا حصر لها في صفوف المعارضة منذ بدايته في إسطنبول مروراً بقرطبة متجهاً إلى جنيف في نهايته، بينما يقدم روبرت فورد طروحاتٍ وإملاءاتٍ لا مكان لها على الأرض. وضمن ظروفٍ لا تشي بإمكانية توافق الائتلاف السوري نفسه على المشاركة في جنيف، يطالب المعارضة بأكملها بأن تشارك في وفدٍ واحد، وببرنامجٍ سياسيّ واحد لم يكتب منه حتى الآن حرف واحد. أما حكومة الائتلاف الأخيرة، فلم تكن إلا دعايةً إعلامية توحي باستقرار العملية السياسية ولو عبر منتجٍ تسويقيّ فارغ: حكومة بلا سلطة، وبلا اعتراف دولي، وبلا قوة سياسية. خطوة تحمل من الفشل أكثر مما تحمل من النجاح، وتؤدي بدورها إلى شعور الائتلاف بأنه"يتخلى"عن مقاعد في حكومته لمصلحة النظام السوري. إذا أصرّت الإدارة الأميركية على مولودها المشوّه الباكر في موعده بحجّة غياب البديل ذاتها التي لا تفارقها، فهذا يعني الفشل الذريع للمؤتمر، وفوزاً ضمنياً لروسيا في جولةٍ سهلة... وبما أنّ الجانب الأميركي لن يقبل بالخسارة، فهذا سيعني عودة المعارضة السورية إلى الصفر، أي التخلي عن الائتلاف الوطني وإصدار النسخة الثالثة للمعارضة في شكلٍ جديد وبالعقم السياسي ذاته. أما في حال قررت أن تمنح نفسها الوقت لإعداد شروط أفضل لعملية سياسية تحفظ ماء الوجه، فهذا يعني تأجيل جنيف مجدداً إلى آذار مارس في أقرب تقدير. وفي كل الحالات، على روبرت فورد أن يحمل أوراقه ويتنحى عن هذا الملف طواعيةً أو كرهاً، إذ يتحمل المسؤولية الأكبر في المأزق السياسي الذي يلف الملف السوري الآن. * كاتب سوري.