على خلاف الأوروبيين، لا يقبل الأميركيون على الإجازات. لذا صارت بلادهم تعرف بالأمة من غير إجازة. وبحسب تقرير صادر عن مركز الأبحاث الاقتصادية والسياسية، تغرد الولاياتالمتحدة خارج سرب الدول المتقدمة اقتصادياً. فالإجازات المدفوعة فيها غير إلزامية. ولكن على رغم غيابها يحظى الأميركيون بأيام إجازة. فأرباب العمل في الشركات يمنحون إجازة لموظفيهم. لكن القانون لا يُلزمهم الإحجام عن خسم أيام الإجازة من راتب الموظف. ووفق مكتب إحصاءات العمل، لا يحظى ربع الأميركيين، أي 28 مليون شخص، بإجازات مدفوعة. ولا يذهب 10 في المئة من الموظفين دواماً كاملاً و60 في المئة من العمال المياومين في إجازة. شطر من هؤلاء قد تكون الإجازة من نصيبه لكنها غير مدفوعة. ولا يُنزل الأميركيون الإجازة مكانة عالية، وتغلب نظرة أصحاب العمل إليها، وهذه تبرز كلفتها العالية. فصاحب العمل يضطر إلى شغل فراغ الموظف، ومكافأته على أيام تغيبه عن العمل."يُنظر الى الاجازة او العطلة في أوروبا على أنها فرصة مثمرة وصحية لتأمين راحة الموظف وتجديد قوة عمله وإقباله عليه. ولكن في أميركا الإجازة عبء على صاحب العمل، وامتياز للموظف. فهي لست حقاً من حقوق العمال"، تقول أريان هيجيويش، مديرة معهد أبحاث في واشنطن. ومتوسط الإجازات المدفوعة، في القطاعين الخاص والعام، لا يزيد على 12 يوماً في السنة من غير احتساب أيام الأعياد. ولكن ثلث المستفيدين من الإجازات ليس في مقدورهم أخذها متصلة ودفعة واحدة، ويضطرون إلى خسارة 3 أيام منها و"إعادتها"إلى صاحب العمل. وترى جمعية"تايك باك يور تايم"استرجع وقتك المطالبة بإطالة الإجازات، أن متوسط وقت زيارة منتزه يوزمايت في كاليفورنيا لا يزيد على 5 ساعات في السنة، بينما كان متوسط وقت زيارة الجيل السابق 48 ساعة. ولكن هل العزوف عن العطل والإحجام عن تسديد مستحقات العامل في إجازة هما من مخلفات العقيدة البوريتانية وإرثها؟ يتوسل الأميركيون عبارة"أخلاق العمل"لتسويغ الكد فيه العمل. كأن الإجهاد عقيدتهم. فالعمل هو نشاط سام يرتقي بالإنسان. و"فكرة الإجازة في أميركا وثيقة الارتباط بالقلق، وليس بالراحة"، كتبت سيندي أرون في كتابه"تاريخ الإجازات في الولاياتالمتحدة". ويخشى الناس اعتبارهم كسالى إذا ذهبوا في عطلة. وينبه جون دي غراف إلى مخاطر العمل المتواصل. ففي ثمانينات القرن الماضي، اقتصر عدد الدول التي يفوق فيها متوسط الأمل في الحياة المتوسط الأميركي على 10 دول، واليوم ارتفع العدد إلى 45 دولة. وفي وقت تمر أميركا بأزمة اقتصادية يخشى الموظف الذهاب في اجازة لا يحمي القانون حقه فيها. ومن يغامر بإجازة يعود ويجد العمل المتراكم في انتظاره. فعلى خلاف أوروبا، لم يدرج الأميركيون على"التغطية"عن غياب زميلهم، وإنجاز حصته من العمل نيابة عنه. والشركات لا تغلق أبوابها. وحين يعود الموظفون أدراجهم، يلهثون للحاق بركاب ما فاتهم. لذا، يقصرون الإجازة على أسبوع. ويقطع الموظفون"أوصال"إجازتهم، ويوزعونها على أكثر من مرحلة. وبعضهم قد يضيف يوم عطلة إلى عطلة نهاية الأسبوع، فيستفيد من 3 أيام إجازة متواصلة. و14 في المئة من القوة العاملة في مقدورها الذهاب في عطلة تمتد أسبوعين. وعطلة من 3 أسابيع هي علامة ثراء وامتياز. لكن علاقة الأميركيين بالإجازة لم تكن دوماً على هذا الفتور. فالعطلة على الطريقة الأميركية عرفت رواجاً كبيراً، في مرحلة ما بعد حرب الانفصال الحرب الأهلية وإثر نشر رواية حملت عنوان"مغامرات في البرية"تصف السفر في منطقة أديرونداكس الجبلية المليئة بالبحيرات والأنهر، في شمال نيويورك. ويصف الكاهن ويليام موراي في هذه"المغامرات"عذوبة جداول الأنهر التي مخر مياهها بقارب صغير. وخلص موراي إلى أن ساكن المدينة يساوره الوهن من قبوعه فيها، وأن رحلة إلى البرية هي جسره إلى نفض التعب عن روحه والحفاظ على سلامته البدنية. ونُشرت الرواية هذه في ربيع 1869، ولقيت رواجاً غير متوقع. وفي الصيف، نظم أهالي نيويورك رحلات استكشافية إلى أديرونداكس، وهي"جنة"لا تبعد أكثر من 36 ساعة منذ مد سكة حديد جديدة بينها وبين مانهاتن. وفي 1875، بلغ عدد الفنادق والمخيمات في هذه الجبال مئتين. وأنشأ أصحاب الثروات الكبيرة مثل آل فانديربلت وركوفللر وكارنيجي مخيمات فاخرة تمضي فيها أسرهم إجازة الصيف فيها. وسرت عادة"إخلاء"شقق مانهاتن من نزلائها نهاية حزيران يونيو. وصار الإخلاء فاكايشن رديف الإجازة، واشتق من فعله اسم العطلة، وسميت تيمناً به. فصارت تعرف ب"فاكيشن"عوض"هوليدي"، الكلمة البريطانية التي يقصد بها الأعياد وأيامها. وفي مطلع القرن العشرين، أطلق بروز السيارات وشيوعها موجة إقبال الأميركيين على استكشاف بلادهم. والظاهرة هذه تعاظمت، إثر الحرب العالمية الثانية مع نمو حجم صناعة السيارات. ومنذ 1956، بدأت الطرق السريعة القارية تنتشر في البلاد. وفي 1959، روج المخرج الكبير الفرد هيتشكوك لهذه الطرق، اثر أخذه المشاهد في رحلة مع الممثل كاري غرانت من مانهاتن إلى جبل راشمور ومعلمه البارز، أي وجوه الرؤساء الأميركيين المنحوتة في الصخر. وشيئاً فشيئاً، انتشرت عادة التمتع بوقت فراغ، ولم تعد حكراً على كبار القوم. ولم يعد اسمرار البشرة علامة فقر. لكن أبواب العطل بقيت موصدة أمام خدم المنازل والعمال الزراعيين. وأعلت المجلات شأن الرحلات الاستكشافية والمغامرات. وكان قصاصون وروائيون أميركيون من أمثال هامنغوي وفوكنر وشتاينبيك من مراسلي مجلة"هوليداي"وأعلامها. وعرفت هذه المرحلة"ازدهار"ثقافة العطلة، وكانت وقت الإجازات الأميركية العائلية الذهبية، والرحلات الطويلة التي"يُحشر"فيها الأطفال في الجزء الخلفي من السيارة. فسكان الوسط الغربي كانوا يتجهون إلى شواطئ الأطلسي. ودرج الكوادر وأصحاب المهن الحرة على شراء أكواخ صغيرة على الساحل. والتخييم كان نشاطاً لا غنى عنه، فهو جسر الأطفال إلى اكتشاف البرية. والصفة هذه صارت لصيقة بالأميركيين. والسود المقتدرون لم يوفروا فرصة الذهاب في رحلات"على الطريق""أون ذي رود". وكانوا ينزلون في فنادق رخيصة على الطريق العام، لكن أبواب بعض هذه الفنادق كانت توصد في وجههم بسبب الفصل العنصري. وتجربة النوم المريرة في السيارة ساهمت في اندلاع حركة الكفاح من أجل المساواة في التسعينات. في تلك المرحلة، كانت ساعات العمل في الولاياتالمتحدة تعادل نظيرتها في أوروبا، ولكن منذ السبعينات، وعلى وقع أزمة النفط، انقلبت أحوال الإجازات الأميركية. وفي 1992، لاحظت الباحثة في الاجتماعيات والاقتصاد في هارفرد، جوليت شور، أن وقت راحة الأميركيين تقلص 140 ساعة في عقدين، ونددت ب"داء ألمّ بالطبقة الوسطى"الأميركية يحملها على ترك الراحة. وفي وقت انكمش وقت العطل في أميركا، تمدد وقتها في أوروبا، وأضيف إليها أسبوع أو أسبوعان. وتوسع الفارق بين الإجازات على ضفتي الأطلسي في التسعينات مع بدء أطول مرحلة ازدهار واستهلاك منفلت من كل عقال عرفتها الولاياتالمتحدة في تاريخها. واليوم، بحسب مكتب إحصاءات العمل الأميركي، يفوق متوسط ساعات عمل الموظف الأميركي 100 ساعة قياساً الى السبعينات. والمتوسط هذا زاد 200 ساعة في أوساط النساء، أي ازداد وقت عمل النساء 5 أسابيع. ولكن على أي وجه يمضي الأميركيون إجازاتهم"القصيرة"؟ تظهر دراسة"هيزر هانتر"التابعة لجمعية سائقي أميركا، أن وجهتهم الأولى هي أولندو في فلوريدا حيث مقر ديزني وورلد، وأناهايم في كاليفورنيا حيث مقر ديزني لاند، ومقصدهم هو الكازينوات في لاس فيغاس في نيفادا، أو العاصمة الفيديرالية، واشنطن. ويستسيغ الأميركيون ما يسمونه"غيتإوايْ"، أي المتنفَس أو الذهاب بعيداً. وهي رحلات في عطلة نهاية الأسبوع إلى نيو أورلينز أو لاس فيغاس أو كانكون. وقد تكون وجهة"المتنفَس"هي زيارة العائلة في المقلب الآخر من البلاد، والتمدد على الشاطئ هو من وسائل ترفيه الطبقة العاملة. والأسر الميسورة تقصد كيبيك الكندية طوال أسبوع أو كوستاريكا في أميركا الوسطى. والمطلقون يتسجلون في محترفات رسم في توسكانا الإيطالية. ولا تُبدد العطل من غير نشاط مثمر. فهي تقتضي إعداد مشروع أو إنجاز عمل لافت أو نشاط استثنائي. وكل 5 أعوام، يذهب الأميركيون في مغامرة طوال أسبوع إلى سلسلة جبال الأبالاش لتسلق أعلى قمة في أميركا الشمالية. * مراسلة، عن"لوموند"ملحق"كولتور إيه إيديه" الفرنسية، إعداد منال نحاس