المثل القائل إن مصائب قوم عند قوم فوائد ينطبق على الحال الأردنية، ويفسر هذا المثل سبب كون هذه السنة سنة جيدة، بل وقد يكون هذا الشهر الأفضل بالنسبة الى الحكم في عمان. فلا تظهر كل من الحرب الأهلية في سورية ولا الاضطرابات في مصر أية إشارة الى انحسارهما في القريب العاجل. وموجة الطائفية آخذة في الارتفاع، والمعارضة الأردنية المتشظية تفتقر إلى الرؤية الصائبة، والأحداث الإقليمية قسمت الأردن على نفسه. فمنذ اعتلاء الملك عبدالله الثاني العرش، نادراً ما كان موقفه أقوى وموقف المعارضة أضعف مما هما عليه اليوم. فكيف سيستفيد الحكم من هذه الفرصة السانحة؟ وهل سيفعل ما يجب فعله: إعادة إحياء وتسريع جدول الأعمال الإصلاحي؟ في ذروة الانتفاضات العربية، اصطدمت الموجة الإقليمية بالحكم الأردني بعنف وأطاحت شركاء الحكم ليتركوا مناصبهم لترثها جماعة الإخوان المسلمين، المنافس الأقوى والأكثر تنظيماً. أما واشنطن، التي بقيت في صف الحكم، فقد أرسلت رسائل مختلطة تؤكد التزامها دعمه ولكن في الوقت ذاته تحثه بشدة على تسريع عملية الإصلاح. غير أن بساط الأمان الذي كانت قد مدته واشنطن لعمّان سُحب فجأة عندما شهدت هذه الأخيرة السرعة التي تخلت فيها الولاياتالمتحدة عن حليفها السابق الرئيس حسني مبارك. ومع ارتفاع موجة الإسلام السياسي وحكم الشعب، بدأ المرء يتساءل عما إذا كان الحكم سيتحول إلى "ديناصور"، وهو الوصف الذي أطلقه هو نفسه بسخرية على منافسيه؟ الآن قد مر عامان ولم ينقرض الحكم الأردني بعد. مما لا شك فيه أن التحديات التي تواجه عمان جمة، حيث دخل أكثر من نصف مليون لاجئ سوري إلى المملكة، رافعين بذلك عدد سكانها بنحو 10 في المئة، ومنهكين مواردها المحدودة أصلاً. كما يخشى العديد من الأردنيين من أن الجهاديين والأسلحة التي توجهت شمالاً قد تعود أدراجها جنوباً. وفي حال شهدت سورية توطد الجيوب الطائفية مشكلةً كياناً جهادياً على الحدود الشمالية للأردن، وهو الأمر الذي يقض مضجع الحكم، فإن التهديد الأمني سيأخذ بالازدياد. وعلى الرغم من الغياب الفعلي للشيعة في البلاد، إلا أن المشاعر الطائفية ارتفعت على نحو ملحوظ منذ انخراط حزب الله في الحرب إلى جانب نظام الأسد. وقد عزز كل هذا التيار السلفي الأردني الساكن في معظمه، إلا أن اندماج تيارات معينة من السلفية الجهادية والسلفية التقليدية سيكون له تداعيات كبيرة على الأردن. أما الاقتصاد، الذي يعيش منذ تأسيس البلاد على المعونات، فلا يزال ضعيفاً، مما يحد من هامش الدولة للمناورة لما قد تقبل به الدول الداعمة مثل الولاياتالمتحدة وأوروبا ودول الخليج والمنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي. كما تضررت صدقية الحكم في ما يتعلق بعملية الإصلاح، جراء إحباط عملية الإصلاح التي بدأت في 2011، إذ تم كبح جماح بعض التطورات الواعدة كحرية الإعلام الإلكترونية وإصلاح النظام الانتخابي. أما حركة الاحتجاج، ولو تقلصت، إلا أنها لاتزال موجودة، لا سيما في أوساط الأردنيين من الضفة الشرقية والذين يشكلون تقليدياً قاعدة دعم النظام. أضف إلى ذلك ارتدادات العنف القبلي، التي وصلت إلى الجامعات وزادت من حدة الانفلات الأمني الذي يؤثر في المناطق الحدودية. وتكمن المفارقة في أن هذه التحديات الكبيرة أصبحت تشكل مصدر قوة الحكم: فكلما ساء الوضع في المنطقة، ازدادت أهمية الحكم وأهمية المملكة. الأردن، والذي بات اليوم الشريك الاستراتيجي المستقر الوحيد للولايات المتحدة خارج منطقة الخليج، أصبح لاعباً أساسياً في أزمة سورية الجيوسياسية والتي تترتب عليها آثار هائلة لوضع إيران في المنطقة، وللعلاقة الأميركية الروسية، ولمكانة إسرائيل العسكرية، ناهيك عن الخطر الذي تشكله الأسلحة الكيماوية. كما أخذت عمان مكانة القاهرة كالراعي العربي للعملية الديبلوماسية بين إسرائيل والفلسطينيين. وخلاصة القول إن الأردن جعل نفسه نافعاً في كل المجالات، معززاً بذلك الدعم الدولي له على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. على الصعيد الداخلي، ثمة إجماع على أنه ليس هناك بديل للنظام مهما بلغت الرغبة العارمة في التغيير التي تستحوذ على الأردنيين على اختلاف مشاربهم السياسية. فالنظام هو المستفيد من هذه المفارقة: إذا اتخذت الاحتجاجات منعطفاً سيئاً وتبعه العنف فقد يواجه الأردن المصير السوري، أما إذا سرعت الاحتجاجات عملية الإصلاح وأفضت بسرعة إلى انتخابات حرة ونزيهة، فقد ينتهي المطاف بالأردن بالسيناريو المصري. أي أن الأردن سيواجه سيناريوين أحلاهما مر. هذا لا يعني أن المملكة ستكون في مأمن من الاضطرابات أو المخاوف الاقتصادية لا سيما ارتفاع أسعار الكهرباء الذي من شأنه إنزال الناس إلى الشارع. إلا أن الأحداث الأخيرة في مصر عززت ما يعرفه الجميع أصلاً: الاحتجاجات تحمل في طياتها مخاطر جمة. وقد عزز هذا شرعية الملك عبدالله التي لا تأتي من كونه سليل النبي محمد فحسب، بل من الوحدة الرمزية التي يوفرها لمجتمع يعد التشرذم وغياب الهوية المشتركة أبرز سماته. وفي حين يجد الحكم نفسه قوياً اليوم، إلا أنه ليس ثمة ضمانات بأنه سيبقى كذلك غداً. فعلى الرغم من أن همة معارضته قد فترت، إلا أن الطاقة السياسية التي ولدتها الصحوة العربية، بما في ذلك في الأردن، لا تظهر أي إشارة بأنها تراجعت. كذلك ينطبق الأمر على أسباب السخط التي أنزلت الحشود إلى الشوارع والساحات. فمن وجهة نظر الحكم، فإن ما يجري في المنطقة أثبت أن البديل عن الإصلاح التدريجي هو الفوضى. ولكن من وجهة نظر جميع الأردنيين تقريباً فإن عملية الإصلاح ليست تدريجية بل باردة في أحسن الأحوال. وهذا أمر مفهوم، فعندما أطلق الملك عملية الإصلاح من جديد في 2011 كان التغيير حينئذ يمثل تهديداً. ولكن اليوم بعد أن تحسن موقف الملك، ومع تشبث حتى المعارضة به، فلديه الآن فرصة أخرى لإثبات أن منهجه الإصلاحي هو حقاً الأفضل لأنه يمكن أن يكتب له النجاح، وليس ببساطة مقارنةً بالآخرين الذين فشلوا. * نائب مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في"مجموعة الأزمات الدولية".