بعد أن تناولت الحلقة السابقة ثقافة"حزب الله"بوصفها ثقافة معادية للمصالح، لا مكان فيها للمهرجانات، هنا التتمة: ليس تاريخ"حزب الله"في البقاع بسيطاً، ولا هو يقبل التبسيط. فقد وجد الحزب نفسه مدعوّاً إلى التغلّب على مصاعب وتعقيدات كثيرة. فهناك تذليل البنية العشائريّة وإعادة تدويرها، وضبط قيمها، في حزب حديث. وهناك"القضيّة"التي لا بدّ من حمل البقاعيّين على استيرادها واستدخالها، علماً أنّ الصراع مع إسرائيل، وهو علّة الوجود المعلنة لحزب الله، محصورة بالجنوب. وإلى ذلك، ينتصب ضعف الوعي الدينيّ في منطقة كالبقاع حائلاً دون تغلغل حزب دينيّ. وأخيراً، هناك حلّ التناقض مع مصادر العيش البقاعيّ التقليديّة، لا سيّما زراعة المخدّرات ونشاط التهريب الذي ينجرّ عنها. وغنيّ عن القول إنّ العون الماليّ الإيرانيّ منذ 1982 والتحالف السياسيّ والأمنيّ مع النظام السوريّ شكّلا الشرط الشارط لتذليل تلك المعضلات عبر مسيرة طويلة لا تخلو من تعرّج والتواء ومهارة. لقد نشأت البدايات في مناخ"تصدير الثورة"الإيرانيّة والحرب مع العراق. وبعد لقاء دمشق حول آية الله محتشمي، الذي كان سفيراً لإيران في سوريّة، والذي عُدّ التأسيس غير الرسميّ ل"حزب الله"، شهدت مدينة بعلبك التأسيس الفعليّ في 1982. أمّا الاسم الأوّل الذي أبرزه الحزب الى العلن، بوصفه ناطقاً باسمه، والذي بات لاحقاً رئيس مجلسه السياسيّ، فكان اسم ابراهيم السيّد من قرية النبي أيلا البقاعيّة. وسريعاً ما تدفّق الإيرانيّون. فهم، على ما يروي بعلبكيّ سبعينيّ يصنّف نفسه عاشقاً للمدينة قبل أن يفد الحزب إليها،"بدأوا يظهرون عندنا، وقد قُدّر عددهم ب500 نفر، عاملين على فصلنا عن زحلة المسيحيّة التي كانت دائماً رئة نتنفّس منها. لقد ملأ الإيرانيّون الدنيا ضجيجاً عن الوحدة الاسلاميّة الجامعة، لكنّ زحلة التي لا تبعد أكثر من 45 كيلومتراً باتت بعيدةً كثيراً". كيف أسّسوا ما أسّسوه؟ في البداية كان الاسم الغالب الذي اعتمدوه"الحرس الثوريّ"وشعارهم"حزب الله هم الغالبون". وبسرعة تناموا وظهروا منظّمين تنظيماً فاجأ الناس، فأنشأوا مستشفى ميدانيّاً وصار لديهم مركز، كما كسوا الحيطان شعارات عن القدس والحسين والدم. لقد عرفوا كيف يخاطبون بعض الفقراء والأميّين، لكن أيضاً أشخاصاً من متوسّطي الحال الذين شرعت أوضاعهم تتدهور. كذلك دفعوا ما بين مئة ومئة وخمسين دولاراً لأهل الفتاة التي تتحجّب، وسط انهيار كان يضرب الاقتصاد والعملة اللبنانيّين، فضلاً عن توفير خدمات لم تعد توفّرها دولة غائبة:"مثلاً"، كما تمضي الرواية،"نحن لم نكن ندري من أين يأتون في مواسم الثلج بكلّ هذا المازوت يوزّعونه على الناس بأرخص سعر ممكن. وفضلاً عن المستشفى، أعطوا منحاً لدراسة الطبّ في إيران وأنشأوا صيدليّة تعاونيّة توفّر الدواء بمقابل زهيد". بعد ذلك راحوا يضايقون الذين يشربون، ففجّروا المحلاّت التي تبيع الخمور حتّى منعوها عمليّاً، بل تعرض مطعم أو مطعمان للقصف، كما قُتل علي الرفاعي ونبيه حيدر الذي اتُّهم ببيع البيرة فتسبّب مقتله في تعاظم نزوح الحيادرة. والبيوت أخافوا أصحابها وسجنوا وعذّبوا من يشرب من أهلها. وكم كان كبيراً خوف الفتاة التي تذهب إلى رأس العين فتقرأ الآية عن"حفظ الفروج"التي كتبوها في مكان متصدّر وبحرف كبير. وهم لم يكتفوا بهذا، فرشّوا الأسيد على البنات اللواتي يتمسّكن بالطريقة التي كانت مألوفة في الملبس والمظهر. وهذا جاء مصحوباً بهجمة الريف على المدينة، فضلاً عن هجمة إيران على لبنان، بعد هجمتي المقاومة الفلسطينيّة والجيش السوريّ. وبسبب الإيرانيّين بات السنّة يتحاشون الظهور خوفاً أو احتجاجاً، وكان المسيحيّون بدورهم اختفوا من المشهد العامّ. ففندق الخوّام، القديم والعريق، الذي هو غابة سرو وصنوبر، جعله الإيرانيّون مركزاً لهم. أمّا مرجة رأس العين التي كانت متنزهاً و"سيراناً"، فباتت مسجداً وصلاة لا تنقطع. لقد تغيّرت المدينة وجدرانها وفضاؤها كما لو أنّ انقلاباً أطاح كلّ شيء. فقد فجّروا تمثال جمال عبدالناصر الذي أقيم في 1973 في مدخل بعلبك، واضعين مكانه تمثالاً للخميني ومُجسّماً لمسجد الصخرة. لكنّهم مدّوا يدهم إلى ما هو أبعد أثراً من الزعيم المصريّ، فتدخّلوا في العادات وطرق الحياة: مُنعت الأعراس، مثلاً، وألقيت قنبلة على بيت واحدة عُزفت الموسيقى خلال عرسها. ذاك أنّ الاحتفال، بعد مجيئهم، بات يقتصر على التلاوات الدينيّة وحدها بذريعة أنّ"البلد محزون"على آل البيت. حتّى عاشوراء تغيّرت كثيراً. فقد كانت قديماً مجالسَ تعزية تنعقد في الحسينيّة مساءً حيث تُروى سيرة الحسين، وفي البيوت تلتقي النساء للبكاء عليه وهنّ يشربن القرفة والشاي، فيما واحدة منهنّ تقرأ السيرة. وبدورهم كان الوجهاء يحتفلون بطريقتهم، فيتجمّع أنصارهم ومؤيّدوهم في بيوتهم الواسعة وتُقدّم اليهم صحون الرزّ بالحليب. وفي اليوم العاشر، آخر أيّام عاشوراء، كان يؤتى إلى الحسينيّة بشيخ جميل الصوت قادر على الإبكاء، بينما تُغلق الأسواق ويتجمّع الناس لحضور الفلّة. ولم يكن اللطم معهوداً، فكان أهل المدينة ينصحون من يحبّ الدم بالتوجّه إلى النبطيّة، على أن يُترك لبعلبك الاحتفال. عاشوراء التي استجدّت اختلفت عن سابقاتها. لقد نقلوها من الحسينيّة الواقعة في وسط المدينة إلى"الجامع الخربان"في مرجة رأس العين، وهو مسجد أثريّ طالما أُهمل وتُرك. وغدا عناصر"حزب الله"المدجّجون بالسلاح والذين يعصبون جباههم، يقودون جموع المتظاهرين ويتقدّمونهم على ظهور أحصنتهم، بينما تسير سيّارات الإسعاف وراءهم لتنقل الجرحى والمصابين إلى المستشفيات. وبين الفرسان والإسعاف كانت تكتظّ حشودٌ من اللاطمين رؤوسَهم ووجوهَهم بالخناجر والسكاكين والحديد. القمصان كانت تنشطر وتتمزّق، والدم يسطع، والأجساد تتساقط على الأرض. يا ألّوو والحياة كلّها أصبحت هكذا باسم مقاتلة إسرائيل. كانوا يمرّون صباحاً هاتفين لاطمين على صدورهم:"لا إله إلاّ الله/ خميني حبيب الله/ إسرائيل عدوّ الله"، إذّاك يرى فيهم أهل بعلبك اعتداء على سكينتهم وعاديّة حياتهم، وهم يرون في هدوء البعلبكيّين وبرودتهم احتجاجاً على هياجهم. وكان للمؤثّرات الشعوريّة التي تنجم عن مثل هذه العراضات قوّة الرعب تبعثه في نفوس السنّة أكثر ممّا كانت تخيف الشيعة الذين يملكون فكرة ما، ولو في الحدّ الأدنى، عن التقاليد الإيرانيّة. فالأخيرة استحكمت في بعلبك إلى أن غلبت، حتى أنّ شبّاناً لبنانيين في"حزب الله"شرعوا يقلّدون اللفظ الايرانيّ فيقولون"يا ألّوو"، ويقصدون"يا ألله". وهذا كلّه من غير أن يُرى إيرانيّون في ظاهر المدينة. فالذين في الواجهة صبيةٌ أغلبهم من جوارها، وقلّة منهم من عائلاتها الصغيرة العدد، أو الأجباب الفقيرة والقليلة التعلّم في عائلاتها الأكبر. وفيما شرع أهل بعلبك يتحدّثون عن وجود مخطوفين أجانب في ثكنة الشيخ عبدالله، تعرّضت القوّات السوريّة و"حزب الله"لهجمات كان أخطرها متفجّرة بعلبك التي قُتل فيها عشرات الأشخاص. واعتبر الحزب الأمر تحدّياً لهيبته وجدارته في الإمساك بأمن المدينة. وبدورهم، فالجنود السوريّون الذين يعرفون أنّهم غير مرحّب بهم، استشاطوا غضباً. فالانفجار الذي وقع في السوق، قريباً من مقرّهم، وكانوا هم المستَهدَفين به أصلاً، أودى ببعض عسكريّيهم. وراحت قوّات الردع السوريّة وقوّات الحزب تطارد شبّاناً من بعلبك بوصفهم عرفاتيّين ومتعاملين مع حزب الكتائب ومع الجيش والشعبة الثانية اللبنانيّين دفعة واحدة. ومن هؤلاء الشبّان مات تحت التعذيب من مات وجُنّ من جُنّ وهرب من هرب. هذه البدايات السوداء ارتبطت بكون أحد البقاعيّين، ابن بريتال الشيخ صبحي الطفيلي، الرجل الأوّل في حزب الله. وهو بالفعل ما لبث أن نُصّب في 1988-89 أوّل أمين عامّ له. والحال أنّ هذا ليس بتفصيل، إذ يومها لم يكن في وسع شيخ"غريب"، من الجنوب مثلاً، أن يُنزل تلك المعاناة بأبناء منطقة فخورة معتدّة بذاتها. كان يلزم لذلك"واحد منّا". تنفيعات لا مشاريع مذّاك تغيّرت أشياء كثيرة منها اكتشاف الحزب تعقيدات المجتمع الذي يريد سوسه والسيطرة عليه. بيد أنّ نوازع السيطرة نفسها لم تتغيّر. أمّا بيئة الحزب ومحازبيه فلم تكفّ عن اكتشاف الفضائل التي ينضح بها. نسأل بسّام رعد مثلاً عمّا يشدّ أهل بعلبك اليوم إلى"حزب الله"، فيشير إلى أنّ عقيدتنا"أن نكون مع المظلوم ونكره الظلم"، ولا ينسى الحديث عن الحرمان وإهمال الدولة التي ورثها الحزب خدميّاً ووظيفيّاً."فأوّلاً في الشتاء، يقدّم المازوت للفقراء ويشقّ الطرقات في الثلج فلا تبقى القرى معزولة. وقد بنى مستشفيات وعيادات تخصصيّة، المعاينة فيها ب5 آلاف ليرة، وتعاونيّات استهلاكيّة، وقدّم مساعدات تربويّة عبر مؤسّسات التعبئة الرياضيّة والتعبئة التربويّة. وفي التنمية سهّل الحزب عمل البلديّات التي جعلت تبني الشراكات مع الجهات المانحة، خصوصاً الكويتوإيران وإيطاليا كما أقامت توأمة مع بلديّة في فرنسا. كذلك سهّل صرف الأموال لتنفيذ المشاريع، أمّا الوحيدون الذين منعنا الحزب من التعاطي معهم فهم الأميركيّون والبريطانيّون". ويمضي رئيس البلديّة السابق:"لكن الأهمّ أنّ الحزب قدّم شهداء وجرحى". وحين نصل إلى إدارة الحياة السياسيّة في بعلبك، يخبرنا رعد مستخدماً بقايا رطانة يساريّة"أنّنا نسمّي العائلات بالإقطاع السياسيّ، وهم أداروا المنطقة بزعامات شخصيّة وعملوا لمصالح فئويّة وللمحسوبين عليهم ضمن دوائر ضيّقة. أمّا الحزب فشمل الجميع، خصوصاً العائلات الفقيرة بمن فيهم سنّة أفادوا من تقديماته، ويحظون بمساعدات كالتي يحظى بها الشيعة. صحيح أنّ الحزب لم يذهب إلى من لم يأت إليه إلاّ أنّه لم يردّ سائلاً". وهذا، كما يشرح أكثر من بعلبكيّ متحفّظ عن"حزب الله"، امتداد للطريقة نفسها التي كان يمارسها الزعماء التقليديّون، بحيث تُقدّم للجمهور منافع وخدمات زبائنيّة من دون أن تقام مشاريع تنمويّة يستغني بها الناس عن طلب التنفيعات ومن دون أن يغادروا عوزهم الذي يحوجهم إلى الحزب. ويعلّق عبدالوهاب أمهز:"نعم، الحزب يعطي معاشات ومناصب، لكنْ ما من أحد يفلح الأرض أو يزرعها، وهناك مشاريع في شأن بعلبك متوقّفة منذ عقود، إلاّ أنّ تحريكها وإحياءها آخر همّ النوّاب الحزبيّين". لكنّ"حزب الله"الذي حلّ محلّ الزعيم التقليديّ، أحلّ التفكير والتخطيط محلّ الاعتباطيّة التي عُرف بها ذاك الزعيم. فهو، في البقاع كما في الجنوب، اتّبع نهجاً من شقّين: من ناحية، قوّى الأرياف والقرى الصغرى في مواجهة المدن، ومن جهة أخرى، دعم الفروع الأضعف والأشدّ تهميشاً في العشائر والعائلات الكبرى فاخترقها عبر أجبابها الدنيا. هكذا لم تظهر له رموز قياديّة في مدينة بعلبك باستثناء محمّد ياغي، مسؤول منطقة البقاع والنائب في دورتي 1992 و2000 الذي يصدر عن واحد من تلك الأجباب المستضعفة. أمّا النوّاب الحاليّون الأربعة ل?"حزب الله"عن بعلبك ? الهرمل، فيعود اثنان منهم، هما حسين الحاج حسن وحسين الموسوي، إلى النبي شيت، فيما يعود نوّار الساحلي إلى الهرمل، وعلي المقداد إلى مقنة. وبدوره، فإنّ عضو مجلس شورى"حزب الله"الشيخ محمّد يزبك، والذي هو مرجعه الأبرز في البقاع، ينتمي إلى نحلة ويقيم في بوداي. ويبدو أنّ نسبة الحزبيّين من عائلات المدينة ضئيلة جدّاً. فمسؤول العمل البلديّ في الحزب، حسين علي النمر، من خارج المدينة، وكذلك مسؤول التعبئة التربويّة، حسين عبدالكريم النمر. وهذا معنى الإشارة المتكرّرة إلى عائلة بلوق الصغرى التي يكثر فيها المنتسبون إليه. لكنْ نظراً إلى ضعف الانتساب يشعر البعلبكيّون"الأصليّون"بعجزهم عن التأثير في الحزب وفي قراراته المتعلّقة بهم. ويصل الأمر ببعلبكيّين إلى الحديث عن"إفقار بعلبك وإغناء ما حولها عبر سياسة الخدمات". فالطرقات خارج المدينة، مثلاً، أفضل كثيراً من طرقاتها. ويضيف ناقد للحزب، واصفاً تغلغله في المدينة، بأنّه يحاكي ما اتّبعه جهازا المخابرات اللبنانيّة ثمّ السوريّة حين عوّلا على مَهيضي الجناح فأكسباهم من القوّة والنفوذ ما يثبّتهم في الصدارة الاجتماعيّة. الوعي المستجدّ والحال أنّ الأمن السوريّ كان قدّم أكثر من نموذج على كسر شوكة العائلات والعشائر معاً، قبل ترميمها على نحو يلائمه. فجنوده حين دخلوا، حلقوا نصف شارب أحد زعماء العشائر، وأطلقوا قذيفة على عرس في أحد بيوت آل شمص، ومعروفةٌ قصّة السجن المديد الذي استحقّه النائب السابق يحيى شمص بعد خطاب شهير ألقاه في البرلمان. وقد استفاد"حزب الله"ممّا فعله السوريّون الذين باتت لهم اليد العليا، استفادته من بعض التمديُن الذي حقّقته المناطق جميعاً. فهو غالباً ما تلاعب على تناقضات العشائر في ما بينها، كما انتزع منها بعض الوظائف التي كان يؤدّيها زعماؤهم. ويروي أمهز أنّ هؤلاء الأخيرين كانوا"يدخلون في تفاصيل الحياة اليوميّة وتتمّ استشارتهم في أمور كبيرة وصغيرة، كتزويج الأبناء والبنات، أمّا اليوم فهذا كلّه تغيّر". وذلك فضلاً عن الثارات والديّة التي حافظ عليها الحزب إنّما نزع عنها أصولها وأعرافها الداخليّة، مثلما حلّ محلّ المحاكم، خصوصاً في المصالحات الكثيرة التي يُجريها سنويّاً. لقد نفّذ الحزب، بلغة أخرى، ثورة جذريّة جدّاً في حدود تغييرها للطرف القائد، إلاّ أنّها محافظة جدّاً في حدود إبقائها على العلاقات نفسها. وإذا كانت العشائر والعائلات قد أسلمت الكثير من مصادر قوّتها له، فإنّ بعض زعمائها وجد الملجأ في"حركة أمل"ذات القوّة المحدودة في البقاع. ذاك أنّ الحزب، تبعاً لتكوينه الدينيّ، كان الأقدر على وراثة التركة الدينيّة في ميراث موسى الصدر. وقد كان الإشعار المبكر بهذا التحوّل انشقاق حسين الموسوي عن"حركة أمل"في 1982 وإنشاؤه"أمل الإسلاميّة"التي ما لبثت أن انضوت في"حزب الله". وفي هذه الحدود التي استفحلت لاحقاً، وُظّف الدين والتديّن أداةً أخرى في تفكيك العائلات والعشائر وفي إعمال الفرز فيها. ووفق دريد ياغي، نجح الحزب، باستخدامه للمقدّس، في ما لم تنجح فيه أحزاب"الحركة الوطنيّة"والمتعلّمون والموظّفون التحديثيّون على مدى عقود، علماً أنّ هؤلاء لم يضعوا نصب أعينهم تفكيك العائلات والعشائر بالمعنى الصارم الذي قصده"حزب الله". فتغلغل الحزب اختلف، في منطقة بعلبك، عن تغلغل أجهزة الاستخبارات في أنّه نشر بين محازبيه وعياً دينيّاً لم يكن معهوداً هناك، فيما أعاد تدوير قيم الرجولة والثأر العشائريّة فصبّها في"قضيّة"غير مسبوقة، هي الأخرى، يلخّصها اليوم"الشهيد"و"الشهادة". ذاك أنّ بعلبك غير متديّنة تقليديّاً، وقد عاشت طويلاً على مسجد وحيد وعلى شيخ جاء من الجنوب هو الشيخ حبيب آل ابراهيم. وآل ابراهيم لم يكن"مثل شيوخ اليوم"، إذ اضطرّ لأن يقتني محلّاً لبيع موادّ البناء، وكان معتدلاً يشارك المسيحيّين أعيادهم. كذلك كان في الهرمل شيخ واحد جنوبيّ هو موسى شرارة، بينما الجامع المقام في قرية نيحا، مثلاً، لم تُبن له مئذنة إلاّ مؤخّراً. ولئن عُرفت عائلة مرتضى بأنّها عائلة"سيّاد"، فإنّ أبناءها نادراً ما أقبلوا على المشيخة. ذاك أنّنا، كما يقول بعلبكيّ،"لم نكن نعرف ما هي الحوزات التي راحوا يبنونها، وفي إحداها قُتل النائب الشيخ خضر طليس في الاشتباكات التي اندلعت بين الحزب وجماعة الطفيلي". ويُلاحَظ، هنا أيضاً، أنّ أكثر المشايخ الجدد الذين استنبتهم"حزب الله"هم من القرى ومن ضواحي بيروت، كما توزّع على القرى أكثر الحسينيّات الكثيرة التي أقيمت. لكنْ فيما يتمتّع الشيخ الحزبيّ بامتيازات النفوذ الاجتماعيّ والسيّارة، وأحياناً المرافقين، فإنّ الشيخ غير الحزبيّ يبقى فقيراً وهامشيّاً. لقد أدّت ثلاثون سنة من غسل الأدمغة وظيفتها. ولمّا كان البقاعيّون في عمومهم أقلّ تعلّماً وأقلّ تسيّساً من الجنوبيّين، بدا إقبالهم على الحزب كمثل الإقبال على تجربة أولى، بحيث يكثر التسليم ويكاد يضمحلّ النقد، فلا تبقى عن"حزب الله"، في رواية المحازبين، إلاّ صفحة ناصعة البياض.