لو... من لو تبدأ... وتحكي عن الحزن الذي يلطمك وأنت ترى رجلاً بائساً يعبر شارع سليمان باشا... أو وأنت تقطع أمام العربات الفيات الأثرية، مسرعة كقطيع جواميس هائجة، كي تكسر عظامك، مع أنك لم تفعل لها يوماً شيئاً، بل أنت حتى لم تركبها... وقعت قطع سيارتك المرسيدس القديمة قبل أن تهاجر، ولم تجد في البلد قطع غيار لها، ومرة في الإسكندرية عرضوا عليك عربة الخديو... تذكر؟ تسرع الخطى قاطعاً كتلة بخارية تشتبك فيها رائحة الطعمية بعطرك الذي لم تعد تجد منه في السوق الحرّة. وتلمح مرة أخرى الرجل البائس نفسه بالقميص الأصفر عند الزاوية، وتكتشف هذه المرة أنه هو أيضاً يتبعك ويراقب.. لماذا لا تكتب عنه... واذا أردت لا تكتب عن الرجل، واكتب عن الهواء الرمادي وعن الأجسام الساعية في الهواء الرمادي وعن المطر الذي لا يهطل، وإذا هطل ملأ المدن وحلاً... تحذرك السيارات، وبالأبواق تجفلك من سيرك وأنت نائم. كيف يظل هذا الرجل البائس بالقميص الأصفر خلفك؟ تحاول أن تضيع منه في زقاق إلى يمينك ثم في أزقة تشعبت عن يسارك. غير أنه شبه سريع، ولمّاح الذكاء رغم بؤسه. تستعين بالأوتوبيس العملاق، يجري كالقاطرة رغم أطنان الحديد واللحم، وتقفز في الفضاء الكالح مثل لاعب الجمباز وتختفي في ظلام أزقة جديدة. هكذا يختفي المسكين الذي حاول أن يتبعك. وكونك تُضيع الزمن الآن في هذه الشوارع الحبيبة، وكون الشخص الذي صُبّ من أثيرٍ مثلك يُدمن الأخيلة، فأنت تروح تتخيل ذلك الرجل البائس وحياته الكئيبة... هل هو شرطي... هل هو عنصر في أمن الدولة... لعله كان يرابط على الزاوية أمام العمارة وما إن لمحك تخرج وتركب التاكسي حتى انطلق يطاردك! وتستغرب كيف أنك لم تنتبه! -"أفندم؟". تتراجع، الجرسون كاد أن يوقعك عن الرصيف، يمدّ ذراعاً معروقة ويساعدك على التوازن. تجد نفسك على الكرسي الذي ينتظرك وأنت لا تدري، وتطلب عصير البرتقال المثلج وأنت تخرج من جيبك علبة السجاير وتلاحظ أن المقهى شبه فارغ على غير عادة. ترفع الريح صفحات"الأهرام"عن طاولة مجاورة، لكن"الأهرام"لا تطير وتبقى في مكانها، تخفق الورقات، صوتها كالريح المحملة حصى، ويأتي كوب الكركديه إليك خطأ، تلمسه وتجده ساخناً، تأخذه، لأنك تأخرت.. في إدمونتون نقول"روزيل تي"، ولا نقول"كركديه". تشعر بحكة في معصمك، فتقرر أن تتخلص من"الكستك"المعدن وتشتري رباطاً من الجلد للساعة، لولا أنك تتذكر وأنت تقوم عن الكرسي أن الرباط الجلد يسبب لك الحكاك أيضاً، وأنك لهذا السبب بالذات جلبت الرباط المعدن. ... أو لا تكتب هذه التفاهات عن الساعة، واكتب ببساطة أنك غير قادر على استيعاب الزمن وجريانه، وأنه الزمن الذي يسبب لك الحكة والحساسية... وتترك الجنيهات وأنت تصرفها في دماغك على الدولار الكندي، وفوقها صحن القهوة لئلا تطير كما تطير الأحلام، وتخرج وتنضم إلى الحشود وتذوب فيها... ثم تساعدك الفترينات الزجاجية فتلمح بين التماثيل المتحجبة وجهاً ينعكس كالنذير ويطلّ كالعبيط من وراء فولسفاجن حمراء، ثم يتبدّد... ما برح يطاردك اذاً، الرجل البائس ذو القميص الأصفر هو ذاته! تركض كي تفرّ منه، غير أنه بمثل سرعتك، ولا يدعك تختفي. لماذا يفعل هذا الأمر... لا يسمح لك أن تضيع في الشوارع ... يمنعك أن تختفي. تتجاوز باعة قلل يتصايحون ويتشابكون ويتضاربون على عادة البشرية، وتتوقف هنيهة كي تلتقط أنفاسك وتتأمل جريان النهر. يجول في بالك أنك تستطيع أن تختفي إذا نزلت الدرج الحجري المبري وراء الكشك الخشبي إلى الشاطئ... تسرع قبل أن يصل من يطاردك.. تنسل بين صناديق كازوزة محطمة، أسفل شجرة خروع متهالكة.. تتجنب حبال الهدوم المنشورة.. وتختفي بين مراكب النيل والعوامات... تشمّ دخان جوزة وروائح قلي السمك.. تجلس على حافة وتنظر إلى الجانب الآخر والعمارات الجديدة الشاهقة وأذرع الأوناش... تتذكر رحلتك بالقطار مع خالك إلى سيدي علي الشنابي، وكيف مررتما على القرية ونظرت إليه يتفحص باب الجامع المقفل بترابيس النحاس.. تتذكر الحر الخفيف بداية"مايو"وأنت ولد، والبنت الشقية التي همست لك في ظلام السلم:"على فكرة، أنا فهماك كويس قوي". لا تنسى نبرة صوتها أبداً! ثلاثون سنة مرّت؟ أربعون؟ الفطائر الثقيلة بالسمن البلدي، وقطع الجبن القريش، وأرغفة العيش المرحرح، والقلة يتركها خالك جنب الفراش ليشرب ماء إذا قام في الليل.. وورقة أسبرين ينتشلها من جيب جلبابه المقلم وهو قاعد يلعب الطاولة.. تتذكر عدّة الشاي ويوم أوقعت وابور السبرتو وكدت تحرق المقعد الأسيوطي.. والبراد الأزرق الذي لم ينكسر.. مرّ الزمن.. تستخرج علبة السجاير.. بدلوا سميراميس الأول وأطاحوا كوبري الزمالك/ بسقط اللوى بين الدخول وحومل... سنوات... تشعل المارلبورو الأخيرة ولا ترمي العلبة في الماء. لو.. من لو تبدأ.. لو بقيت هنا.. لو لم تخرج... وتشعر بالحزن من دون أن تتأكد لماذا تشعر هكذا... تتابع مراقبة المياه المستكينة الراكدة... وبقعة مازوت تطفو معتكرة كالذكريات... تلقي العقب المشتعل.. ينطفئ في هسيس... تكتشف وجه الرجل البائس نفسه، بقميصك الأصفر نفسه، يستلقي على ظهره في سرير النيل، يبادلك نظرتك الكابية من تحت النهر.