-1- كانت الخريطة خالية من ظل لوديف، وكنت أفتش عن فستان أزرق، وعن فضاء، وفي الفضاء تفرقت ذرات الشمس قبل أن تتجمع ثانية وتتراص، وتكوِّن فردتي حذاء، ثم ساقين، وتكوِّن بعد ذلك حوضاً وخصراً وصدراً وذراعين ورأساً ثقيلاً مشوّشاً ليصبح الشكل كله رجلاً مهموماً يضع فوق رأسه كاسكيت ويشير الى مونبلييه، وفمه يتمتم: مونبلييه مونبلييه، فأتذكر طه حسين وأقول لصاحب الكاسكيت كأنني صديقه: أعرفها، ولكنه بعد أن يسمعني بوضوح، يعبر، ولا يلتفت إلى الوراء أبداً، فأقول بصوت عال جهير، ربما لأجبره على النظر، لوديف، إنها مدينة صغيرة، يفصلها عن مونبلييه ساعة والنصف ساعة بالسيارة، وعن البحر فراسخ لا أعرف عددها، ويفصلها عن القاهرة شعراء كثيرون أتوا بأحمالهم وأثقالهم ووجوههم الطبيعية والصناعية بعضهم متوتر فاتن كأنه سينتصر على المجد، كأنه سيقهره، وبعضهم درويش مفتون لا يعبأ إلا بوجوده الخاص الرازح فوق خطوط كلها خطوط زوال، كلها خطوط رجعة الى الرحم، كلها خطوط. -2- كانت الخريطة خالية من ظل لوديف، وكنا نبتعد عن الخريطة، نتركها خلفنا كأنها سوأة الشيطان، وندخل مدينة ليست ملونة وليست بيضاء، هيكلها العظمي أزقة ملتوية، ومبلطة ببلاط صغير أسود، على الأصح بشظايا بلاط صغير أسود، ومحاطة من أغلب جهاتها بجبال مكسوة بخضرة صافية، ويُحكى ان بعض هذه الجبال ينسدل حول بحيرة، وأن أعلى قممها مسكونة بمعبد السيدة الأم، أمنا، الذي يصبح في الليل قميصاً من الضوء، يصبح وحده فوق الجبل قميصاً واسعاً من الضوء، يلمع، ويهتز، غالباً إذا ارتفع رنين الأجراس، لأنها أيضاً مدينة أجراس، كانت المدينة عندما دخلناها نائمة، ولم تكن مغطاة بأي حلم، جلدها ظاهر وليس ناعماً، وحنجرتها محجوزة خلف سحابة، وبعض ابنائها يسحبوننا من أحداقنا التي تمتد وتستطيل، فاذا حاولنا النوم بعد ذلك، انتظرنا أن تعود الأحداث الى طبيعتها. -3- كانت الخريطة خالية من ظل لوديف، والسائق الذي يقودنا لا يريد أن يحدثنا عن سوق الثلثاء في المدينة، سوق العصر، من الرابعة حتى السادسة مساء، وكل أسبوع، وعن الفلاحين والنبيذ والدجاج المذبوح والدجاج المحمر والبط وأشياء كثيرة أخرى، السائق الذي يقودنا يحدثنا عن الجنوبيين، عن حنوّهم الإنساني، وبساطتهم، عن أول حديقة، وعن أول هواء، عن صناعة منسوجات وملابس الجيوش، وعن الجيوش، وعن النصر، وعن نابليون، وعن المعادن، وعن الرمل الأسود، وعن زيجاته التي لا تتم، وعنن الجزائريين الحركيين الذين انضموا إلى جيش التحرير الفرنسي اثناء الحرب العالمية الثانية، والذين كوفئوا، وملأ بعضهم بيوت لوديف، وملأوا شوارعها، وتناسلوا وتكاثروا وأقاموا، وأصبحت الزرابي مبثوثة، وضاع صوت السائق في حنايا صوت آخر يناكفه ويلح على تذكيرنا بالبطالة التي تعم لوديف، وبالذباب الذي صادفناه وصادفنا، وصادف عبداللطيف اللعبي فاتكأ على كرسيه بالمقهى وقال: "لوديف أول مدينة فرنسية تشبه مدننا، كان عبداللطيف يضحك بعد أن يطمئن أننا هبطنا فوق رمال الشاطىء البعيد لعبارته، وبعد أن يتوقف عن الضحك، نبدأ جميعاً السير في شوارع القاهرة والرباط ومراكش وبيروت وتونس ودمشق والاسكندرية ووهران وبقية المدن التي يضمها أو يطوف حولها لسانان، اللسان العربي، ولسان البحر المتوسط. -4- كانت الخريطة خالية من ظل لوديف، وكان الشاعر الفرنسي مارك دي لوز ينفخ زفيره قبل أن ينفخ الآلات التي ستدير مهرجان البحر المتوسط، الآلات النسوية النشطة ويستعد لموكب الافتتاح، تماثيل محمولة، ومهرجون، وكل الوفود، وحرارة الشمس، كلهم كلهم يدوسون المدينة باحترام بليغ، ويعبرون أزقتها، وعند الزوايا يتوقفون فجأة ليصعد شاعر الى شرفة أحد المنازل ويبدأ في إلقاء قصيدة بلغة بلاده، كانت اللغة العربية غائبة عن الموكب، ربما دون قصد، وعند زاوية أخرى يتوقفون لترقص راقصة نحيلة جداً رقصاً تعبيرياً حديثاً، أو لينشد أحد المغنين أغنيته التي أدخرها، وسوف تصادفك سيدة عجوز أو صبية جادة تمسك حزمة أوراق صفراء صُفرة زاهية، ولا تزيد مساحة الورقة الواحدة، منها عن مساحة كف اليد، وسوف تعطيك احداها، خذها، سوف تصادفك سيدات أخريات، وورقات أخريات، لتجتمع في يدك قصائد ربما لرينيه شار أو محمود درويش أو بول إيلور أو أراجون أو أندريه شديد، كلها بالفرنسية طبعاً، ضعها بلا تردد في جيبك، لأن الموكب سيتوقف في دار البلدية التي تتاخم الكاتدرائية، ولأن المحافظ سيجرب أن يصيبنا بالملل، وسوف ينجح، الذي حيرني، ولم يحير المحافظ بالتأكيد، وربما شغل بال مارك دي لوز بعض الوقت، هو غيبة ذلك اللسان العربي الذي يمثل الفصّ الأكبر من لسان البحر المتوسط، والذي له الحق في الرسوخ، له الحق في اصطياد الشعر من الغابات، وكأن موقف الغيبة موقف صوفي لا يجرح الشعر، وكأن الشعر ليس الفن الذي يعاني عندما ينز بعيداً عن لغته، والذي حيرني أيضاً، وربما لم يشغل بال الشاعر الفرنسي مارك دي لوز، هو هؤلاء السادة والسيدات الذين وفدوا من أماكن نائية عن بلادهم دون أن يحملوا عود صفصاف واحد من آداب هذه البلاد، فكانت النتيجة انخفاض منسوب المياه الحية الجارية الى الحد الذي هدد المهرجان بالجفاف، لولا قصائد متفرقة قرأها أصحابها دون اطمئنان، ودون ثقة، وكانت النتيجة ثانياً استبداد الحسب والنسب الفرانكفوني وطغيانه على قائمة التمثيل العربي: الجزائر: ثلاثة شعراء يكتبون الفرنسية ويقيمون في فرنسا مالك علولة/ والحبيب طنغور/ وسليمة آية محمد. لبنان: شاعران يكتبان الفرنسية ويقيمان في فرنسا صلاح ستيتية وفينوس خوري. تونس: شاعران أحدهما يكتب اللغتين طاهر بكري والآخر يكتب الفرنسية أمينة سعيد ويقيمان في فرنسا. المغرب: شاعران احدهما يكتب العربية محمد بنيس والثاني يكتب اللغتين ويقيم في فرنسا عبداللطيف اللعبي فلسطين: شاعر واحد يكتب العربية ويقيم في فرنسا مصطفى عتيق سورية: شاعرة واحدة تكتب العربية وتقيم في فرنسا عائشة ارناؤوط. الذي حيرني، وربما يمكن ان يشغل عقول الذين يظنون أن السيدة أوروبا فاتنة وجادة ولا تخطىء، هو لماذا لم يفكر أحد في ضرورة أن يتوفر جهاز لترجمة القصائد الى اللغة الفرنسية، ليس ترجمة فورية، ولكن اثناء فترة الإعداد للمهرجان خصوصاً أن الشعراء جاءوا ومعهم نصوصهم المترجمة سابقاً، أو المترجمة بجهودهم الشخصية وأن اللغة التي غلبت المهرجان كله، هي لغة باريس، لغة عاصمة البلد المضيف وعن طريق شعرائنا ايضاً، والحادثة الشاذة يمكن أحياناً أن تكون علامة، فالشاعر الفرنسي الذي لا نعرفه جوليان بلان، سيستغرق وقتاً طويلاً في نفخ الهواء، وإصدار الأصوات الحلقية، والأصوات الأعمق حتى أنني خشيت عليه من داء الفتاق، وخشيت على قصيدته من الترهل، لأنها محض أصوات عنيفة أو غاضبة أو محتقنة، وأثناءها سيميل أحد الشعراء الايطاليين على صاحبه ويهمس همسة خافتة وعابرة، بعد أن ينتهي جوليان، يوجه اللوم الى الايطالي: جوليان: انت لم تسمعني جيداً الايطالي: استمعت إليك جوليان: كنت تحدث زميلك الايطالي: همسة عابرة وغير مقصودة جوليان: انها تدل على قلة الذوق الايطالي: لم يحدث أن قال لي أحد مثل هذا التعبير جوليان: لهذا السبب، استضافتك فرنسا في ندوة أخرى، كان الشاعر الطوارقي هاواد يمارس حقه في أن يرسم الصورة التي يحبها لنفسه، لا أحد يعترض، كان أداؤه المسرحي مغرياً أحياناً، إلى جانبه تجلس زوجته وفي يدها دفتر أشعاره المطبوع باللغة الفرنسية، أما هو فيمسك مخطوطاً باللغة الطوارقية يضم الأشعار الأصلية، فيما بعد باح هاواد بأنهم لا يسمحون للطوارق بامتلاك مطبعة بحروف طوارقية، وأنهم لا يسمحون لهم أبداً بأن يكونوا أنفسهم، وفي ثورة هياج أغلبها يبحث عن خشبة مسرح وعن جمهور، أعلن هاواد أن العرب الموجودين حفنة أشرار، أنهم خونة، فالمغربي يخون مغربيته، والمصري، وأشار إليّ، يخون مصريته، وأن أدونيس ومحمود درويش هما الشاعران الوحيدان من غير سلالة الخونة، في اليوم التالي توسعت معارك هاواد وامتدت لتشمل الزملاء الفلسطينيين الذين لم يحتملوا، فذهب أحدهم الى مارك دي لوز وحذره: يا سيد مارك سأغادر إذا لم يتوقف الطوارقي عن إهانة العرب، بعدها استعان الفلسطيني ببعضنا، فأعانوه، في الصباح كان هاواد قد اختفى، وكنت في مكان آخر أحاول أن أتشبث بكرسي المقهى وأحاول أن أرى الكائنات التي تخرج من فم عبداللطيف اللعبي، فعندما تحدث عن الحضارات التي ابتدعت وأوجدت الاشياء بقوة الخلق مثل الحضارة الغربية الحديثة كنت أشاهد رف فراشات يطير إلى أعلى ويحلّق ويصنع مظلة بيضاء، وعندما تحدث عن الحضارات التي أعادت انتاج وتوليف وترتيب ما أنتجه الآخرون مثل الحضارة العربية، كنت أشاهد بطة برية تحاول أن تطير ولا تقدر، ولأن فم عبداللطيف كان عالياً جداً عنها، فتقع أبصارنا على لوحة فاتنة لفرنسا، وعندها ندرك القدرة التي تمتلكها هذه اللوحة، ففرنسا فقط هي التي تستطيع أن تأخذك في أحضانها، تستطيع أن تشعرك بحرارة العاطفة، أن تجرك إلى قلبها وعندما تأتي الكاميرا، سيحاول الكادر أن يتوسع ولكنه مهما توسع ومهما انتشر ستظل فرنسا هي الصورة الوحيدة، صورة الأم الحانية على أطفالها الذين أصبحوا خارج الكادر تماماً، اصبحوا في المنفى. -5- كانت الخريطة خالية من ظل لوديف، وكان هرمان هسه هو رفيقي الذي اصطحبته معي، ألوذ به ربما أول النهار، ربما في الطائرة، ربما آخر الليل، وأحياناً في القيلولة، وأذكره مسجوناً بتهمة إغواء فتاة يافعة عن طريق السحر، وما توافرت له من الألوان والأدوات، بدأ يرسم على جدران الزنزانة الانهار والجبال والبحر والسحاب والفلاحين، ووسط اللوحة كان يرسم قطاراً صغيراً جداً فوق سكة حديد، متوجهاً صوب الجبل، وكان القطار يدخل النفق الصغير الذي يتدفق الدخان من مدخله المظلم، وفي أحد الأيام يتحول هرمان الى كائن صغير، وبعد قليل يخطو داخل لوحته ويصعد على متن القطار الذي تبدد واختفى، ومعه اختفت اللوحة، واختفى هرمان مع اللوحة وبقي الحراس وحدهم تحيطهم الحيرة، كنت كثيراً ما أركب قطار هرمان، خصوصاً إذا أحسست أنني مسجون خارج لغتي، وأنني أحن إليها، وأنني يجب أن اجتاز النفق، وذات مرة وأنا على متن القطار، سمعت لغتي تتردد صحيحة، ودون أعوجاج، توقف القطار قبل أن أقفز، أدهشتني عائشة ارناؤوط، كانت صحة نطقها قد بلغت الحافة العليا للكأس، وكان صوتها يأتي من البئر الذي رأيت وجهي على صفحته، في الصباح التالي وبينما كنت أشهد قافلة القواقع تحملها ديدان فاتحة اللون وتسير بها طريق العودة الى الترعة، تذكرت صوت عائشة فاختفى المشهد، فأمعنت في التذكر وأقمت داخلي ساحة واسعة دخلها في البداية شهموز المغنى الشاعر الكردي التركي، وأنشد أمام عارفيه قصائد محيي الدين بن عربي، عرفت أن شهموز تعني شيخ موسى، وأن محيي الدين بن عربي يعني خلاصي وبعدها دخل صوت اللعبي، يهمس في تفاؤل حزين، خلال ساعتين في القطار، وعلى أرض الساحة رأيت ابن حزم وكتاب الحب الذي تركه وديعة عند أحد أخلافه، فطابت نفسي، وتمنيت الاستماع الى الشيخ أبي الطيب: بم التعلل لا أهل ولا وطنُ / ولا نديم ولا كأس ولا سكنُ / أريد من زمني ذا أن يبلّغني / ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ قبل انسلال الصوت من نون الزمن، كانت لوديف تمتلك ترعتين، ويظن الناس هناك انهما نهران، وكانت إحداهما مجرد ترعة بروليتارية محفورة خلف ظهر البيت الذي أقيم فيه، أما الترعة الأخرى فكانت تلبس جونلة تكشف عن بعض شبابها، وكان الصباح يأتيني كل يوم ويسحبني من يدي، ليضع وجهي مباشرة في وجه الترعة البائسة فأخجل أن أقول لها: صباح الخير، وأغض الطرف وأنصرف وأنا أردد: بم التعلل لا أهل ولا وطنُ -6- كانت الخريطة خالية من ظل لوديف، يكفي أن تستمع إلى صوت أوزدمير التركي وأن تحادثه فتنبت فوق جسمك غابة من الأشجار العاشقة، وتزورك الطيور من كل اتجاه، وتختفي أنت، تصبح في قلب المشهد، بعيداً عن العيون، وجّهني اوزدمير الى دليلة سي العربي قال لي: "لقد ترجمت الى العربية ما يقرب من مئة صفحة من قصائدي، شكراً اوزدمير، يكفي أن ترى الآلهة اليونانيين في عيني يانيس ايفانتيس وأن تظن أنهم عائدون من العمل ذاهبون الى الحدائق، وأن حقائبهم مفتوحة تماماً مثل قلوبهم، ويكفي أن يغني رفاقك فيملأوا سماء المدينة بالرياح التي حاول اصطيادها عبدالوهاب وفيروز وأم كلثوم، هكذا هكذا بعد كل عشاء، يملأون سماءهم ويجمعون حولهم كل الرهبان والمتصوفة ليرقصوا رقصاً بدائياً، ينضم إليه ذات ليلة المغني الاسباني الرائق الجميل باكو حتى اذا حانت حفلته وصعد خشبة المسرح وغنى قصائد لوركا ونيرودا وخوزيه غويتسولو، لم ينس أن يغني قصيدة قديمة كتبتها امرأة عاشت أيام المعتمد بن عباد، وان يهدي أغنيته الى المصريين ورفاقهم العرب، ويكفي أن تستمتع مسحوراً الى المغنية اليونانية انجيليكا يوناتوس ومعها العازف على كل الآلات والذي أظن أنه ارجنتيني وأنه صديقها الحميم، عاشقها، لدقة ورقة ورهافة الغزل بين جيتاريهما مرة، وبين صوتها وبريق عينيه كل مرة، بعدما انتهت انجيليكا من الغناء، ظننت أنني وجدت الاجابة عن السؤال الفظ، ما جدوى الفن؟، انه انتصار دائم على الموت، هكذا قلت لنفسي، حدث أن تهت في أزقة لوديف بعد حفلة انجيليكا، وظللت أدور أكثر من ساعتين حول نفسي ودون جدوى، واثناء دوراني قابلت انجيليكا تنصرف مع إحدى المنظمات، بحثت في كل وجهها، في كل جسدها عن فتنتها التي سحرتني، فلم أجد شيئاً، عرفت أنها تركت الفتنة فوق خشبة المسرح، وعادت إلى مجرى الحياة كامرأة عادية خالية من الوسامة. -7- ما زالت الخريطة خالية من ظل لوديف، لم أشأ أن أسجل أو أمحو صوت المغنية سافو، التي تتخصص فقط في غناء الأطلال، الأصح، تتخصص فقط في إفساد الأطلال، والتي تقف وراءها ميديا هائلة بحجم قارة، ميديا تشبه روح الغرب وهي تصارع وتقاتل باقتدار، فإذا تمكنت من استبعاد اللسان العربي، واطمأنت الى غيابه، عادت لتبعثه ثانية في صوت سافو، وكأنها تحتفل باستعادته، هي فقط تدرك أنها تحتفل بتهشيمه وكي أتملص، كي أفلت، سأحاول أن استعين ببرنارد نويل، صديق اصدقائي، والشعر الذي يكره الزوائد، يزيلها من لغته ومن طريقه، أحياناً ينتفها، والذي يعرف ان الضحية يتغير اسمها يوماً بعد يوم وأنه سيقف دائماً مع آخر اسم للضحية، وأنه قد يتربص معي ويراقب الحبيب طنغور الذي يتصور أن اللغة العربية مشغولة بصناعة الارهاب، وان اللغة الفرنسية مشغولة بصناعة الحب، وأن نوبل قد يتعصب ويصرّ على أن اللغات كلها مشغولة بإدمان الشعر، وان الله له طرقه، وأن المجلد ليس إلا الكوب الفارغ: حلمت أني كنت ميتاً. أناس كانوا ينطقون / باسمي. حركة شفاههم كنت أشاهد. واسمي / من شفة لأخرى كان يطير. لم يكن اسمي / يعرف من أنا. لم يكن اسمي يعرف أنه اسمي. / بيضاء كانت الشفاه والخريطة مازالت خالية من لوديف، وبرنارد نويل الراهب انضم قديماً الى سلالة الحكائين: كان رجل يشتكي، طيلة الوقت، من كونه أطول من اللازم، آه، قال ذات يوم، إن جعل الله قامتي قصيرة، فسأؤمن بالله، طبعاً، تجلى الله له بسرعة - تمنَّ، نصحه الله لم يصدق الرجل المهم عينيه، ثم تفهموه، فكيف يمكن معرفة إن كان المتكلم هو الله فعلاً؟ ألا تريد أن تتمنى، ألح الله، فأنا سأفعل ما تريد. فتح الرجل عينيه، أكثر، إلى الحد الذي فاض منه هذا الطول على غيره، أتعب الله نفسه، ثم احتار. عندئذ عاد الرجل المهم الى رشده وقبض يديه يائساً. لكن ضميره استيقظ عندئذ وهجس به - أقضم بالأحرى جمجمتك وقدميك، لأنه مكتوب: أعنْ نفسك تعنك السماء. أعن نفسك، فالمجد ليس في لوديف، وليس هنا، وليس في أي مكان، المجد في قلوبنا، أعنْ نفسك تعنك السماء * شاعر مصر