بعد أن نكون تلقينا الصدمة ثم قمنا باستيعابها وأفقنا منها مترنحين، وبدأنا أعظم وصلات نواح وانتهينا منها أيضاً، لا بد من أن ندرك أنّ المشهد يستحق التأمل بعمق وهدوء. وربما تنتابنا مسحة من الحكمة لنقلّد زوربا في جملته الختامية الشهيرة، فنقف على الأنقاض ونقول"ما أجمل هذا الانهيار... لنرقص". بدأ الانهيار حثيثاً ومن ثم تسارعت وتيرته يوماً بعد يوم، ثمّ ساعة بعد ساعة، ثم دقيقة تلو الأخرى. انهيار أمني، انهيار سياحي، انهيار اقتصادي، انهيار معماري، ومن ثم انهيار إنساني، ولابد من أن يصاحب ذلك كلّه الانهيار الثقافي. ولكن في كل مرة يخونك ذكاؤك وتجلس لمشاهدة الصندوق المسمى التلفزيون ستجد أحدهم يصرخ متوعداً: المشكلة أننا نعاني أزمة أخلاقية. حقاً؟ ولا تملك سوى أن تجيب أنت ب"الإفيه"المصري الذي تحول إلى لازمة كلامية"لا والله". بعدما أفقنا من الصدمة الأولى يمكننا أن نفهم - بل ونتفهم - تصرفات"الحزب الحاكم"في مصر الآن، من تحت الأرض إلى فوقها على كرسي السلطة. ما الذي يجب أن نتوقعه سوى مجموعة من الصفقات والاتفاقات السرية التي تتعثر سريعاً أثناء تقسيم الكعكة، وهو التقسيم الذي أصبح معروفاً باسم"الأخونة". وإذا كانت عملية الأخونة بدأت فعلياً بنيّة إضفاء صبغة إيديولوجية على مؤسسات الدولة، فقد انتهت الآن إلى محاولة للسيطرة على هذه المؤسسات. إنها مجرد إحلال وتبديل ويستمر النظام المباركي بكل قوته، وهو ما يفسر زلات اللسان المتتالية التي يقع فيها المسؤولون وأحياناً الصحف فيقولون مبارك بدلاً من مرسي!. إنها عملية سيطرة بحتة على المؤسسات ولا تنجو منها أية فئة، لأنّ استخدام سلاح القوة يحسم المسألة فوراً. وفي أثناء استعراض العضلات واستخدام القوة التنفيذية لابد من أن يسيل لعاب السلطة للسيطرة على مؤسسات وزارة الثقافة - من أجل السيطرة على الفكرة والكلمة - عبر ممارسة الإحلال والتبديل: تزيح شخصاً من مكانه لتضع مكانه آخر ينفذ لك ما تهواه. تأتي الإزاحة تحت مسميات عدة: القضاء على الفساد أو الحفاظ على الهوية أو ضخ دماء جديدة تعكس ثورة 25 يناير تلك الثورة التي أصبحت غطاء سياسياً وشرعياً لكل الانتهاكات. ومن هنا يبدأ التضليل أو بالأحرى المأزق، لتتحول الحياة اليومية للمصريين في معظم تجلياتها إلى طبعات مختلفة من سيناريو الإعادة بين مرسي وشفيق مع استثناءات تظهر بين الحين والآخر. يتكرّر السيناريو كل يوم وكأنّ هذا الاختيار أصبح محصوراً بين نظامين لا ثالث لهما، وهو أبعد ما يكون عن الصحة، لكنها السلطة وشهوتها التي قد تسلك أي طريق من أجل الاستحواذ. وعليه فهي سلطة تفتقد إلى الفطنة والذكاء وحسن التصرف، إذ أنها تصيغ خطاباً أجوف لا يمنحك معطيات للاشتباك معه أو مقارعته بالحجة. هو خطاب لا يفكر في ما يطرحه ولا يرى ما حوله ولا يعرف مساره، فيخطر في باله وهو يجلس تحت قبة مجلس الشورى أن يعلن ضرورة إلغاء فن الباليه من دار الأوبرا وذلك أثناء مناقشة الموازنة لأنه"فن العراة"وربما قيل إنه فن"جنسي". كيف يمكنك أن تشتبك مع هكذا كلام؟ كلام دفع دار الأوبرا في كل من باريس وبراغ إلى تعليق العروض ثلاثة أيام تضامناً مع دار الأوبرا المصرية. هل تصيغ السلطة خطابها ذاك بوعي؟ ربما تكون مثل كل السلطات التي ترى في أشكال الفنون تربة خصبة للمخيلة التي تمتد على استقامتها لتتحول إلى مقاومة، وربما لا تطرح السلطة هذا الخطاب بوعي، بمعنى أنّ ما يقال قد يكون فعلياً هو شكل الوعي الذي تحمله: فن عراة، هكذا ببساطة. لكنّ الأكيد في كلتا الحالتين هو أن هذا الخطاب السلطوي لا يرى أي أهمية أو مغزى في الفن بالرغم من تأكيداته الدائمة أنه يشجع الفنون، ولا يرى غضاضة في التضحية بالفنون من أجل توفير الموازنة المخصصة لما هو أكثر جدوى من وجهة نظره. بل إن بعض أطراف هذا الخطاب السلطوي تتبنى الدعوة إلى ما يُسمى الفن الهادف، وهو خطاب عملت السلطات كافة على تبنيه حتى سقط في النصف الثاني من القرن العشرين وانتهى تماماً مع سقوط جدار برلين. والفن الهادف الملتزم في بعض السياقات هو ما يتم تعريفه - على مدار التاريخ - بكلام إنشائي ومرسل يفتقر إلى التحديد والدقة. وبمعنى آخر، تود السلطة أن ترى أهدافها تتحقق في الخطاب الفني، ليتحول الفن - وهل يجوز تسميته فناً في هذه الحالة؟ إلى بوق يردد مقولاتها أياً كانت، فتتعاظم آلة الرقابة التنفيذية ويستوعبها المجتمع تدريجاً ليعيد إنتاجها في شكل نفور مجتمعي من كل ما لا يوافق أهداف السلطة. وبتعاقب السلطات والحكومات لم يسعَ أيّ منها إلى ترسيخ أهمية الفنون والآداب، فبقيت هذه المجالات رفاهية يمكن التمتع بها بعد اكتمال الاحتياجات الأساسية. والأمس ليس ببعيد، الأمس المباركي الذي حوكمت فيه ثلاث روايات أدبية تحت قبة البرلمان. وكأنّ ما نسمعه اليوم هو تكملة الجملة التي بدأت عام 2001 مع تغير شكلي في المشهد. حقاً، ما أجمل هذا الانهيار ... لنرقص حتى نبدأ من جديد.