أن يكون الحديث عن العولمة حديث الساعة، ومدار الدراسة والتأمل فهذا شأن حميد على ما اعتور بعض القراءات من تكرارية وخطابية يعاد انتاج مفرداتها ليجنح البعض ممن تعوزهم أدوات التحليل ومرجعيات الاحكام، فتراهم مشدودين لتيار الكونية الجديد بكل مفاهيمه وقيمه، باعتبار ان العصر يسحق المتقاعسين والقاعدين والساخطين، إما لأنهم يحسنون الظن بمسوقي العلائق الجديدة ولا يرون ما يحول دون عولمة تراعي مصلحة الجموع، أو لأنهم يحسبون ان المشاركة في الغنيمة اولى من رفضها في زمن العولمة. بينما آخرون تشبثوا بهاجس الريبة الكبرى وانكفأوا الى حسهم القديم الذي يحذر من التعامل مع الشيطان، وان كان هذا الشيطان لم يبرح عقر دارهم منذ سنين! وعلى ما ينال الحديث عن العولمة من تعميمات وتهويمات واغراق في تفاصيل باتت تنسب الى العولمة واشكالاتها، او جنوح يبرئ الشيطان من هاجس الاثم او مقترفيه، يظل تناول هذه المسألة من زاوايا عدة، جديراً في بعض الاحيان ان يكشف عما يزخر به الشارع العربي الوالغ حتى أذنيه في ثقافة العولمة، المتحرر من عولمة السياسة، المستسلم لمصيره الذي بات بين أيدي الاقتصاديين الذين يزعمون ان تخصيص هذا الإنسان نفسه - لا تحريره - ربما كان المدخل الوحيد لدخول العولمة من اوسع أبوابها. لم يبق احد يرى العولمة في شقها الاقتصادي الا آلية تحتكم لنظام السوق والتبادل الحر وحركة رؤوس الأموال وحماية الاستثمار - أياً كان نوعه - بمباركة ومراقبة منظمة التجارة العالمية، وتحت عين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. في عصر العولمة يحل طور جديد من اطوار الرأسمالية التي لم تعد تضع كثير اعتبار لحقوق الانسان الاجتماعية، بل تتخلى عن كثير من حقوق الرعاية الاجتماعية باعتبارها افرازات جاءت كردة فعل للنظام الرأسمالي الغربي الاوروبي - تحديداً - في صراعه القديم مع الفكر الاقتصادي الاشتراكي الذي انهارت كياناته الاقتصادية على اثر انهيار منظومته السياسية. فتلك الانجازات التي صاحبت النغمة القديمة التي تربط بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والتي وجدت لها تربة صالحة في خضم الصراع العقائدي بين المنظومتين الليبرالية الرأسمالية الغربية والاشتراكية الشرقية، جاءت كجزء من التأسيس لمنظومة اكثر اقتراباً من حاجات الإنسان، حيث الفكرة الاشتراكية تأسيس نقيض للنظام الاقطاعي الاوروبي. وعليه فانهيار هذا النقيض وانتصار النموذج الرأسمالي - حتماً ليس كمرحلة نهائية كما يزعم فرانسيس فوكوياما - يدفع بالمزيد من الانصار لنظرية السوق حيث تتشكل الفرص الافضل للنمو من خلال آليات تعولم الاقتصاد لتقتحم عوالم الدول النامية التي ظنت حيناً من الزمن انها تقترب من احلامها بتأسيس المدينة الفاضلة - لا بالمفهوم الافلاطوني ولكن بالنظرة الجنوب شرق آسيوية - عندما صرح المستشار العلمي لرئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد قبل سنتين بأن ماليزيا تستهدف نموا اقتصادياً يحقق لها في عام 2020 مستوى من الرفاه والتقدم يوازي دولة مثل السويد!.. لكن هذا الحلم الماليزي لن يتحقق مع المعدلات السالبة للاقتصاد الماليزي في العامين الماضيين، بل ان الجارة الكبرى اندونيسيا التي استدعت صندوق النقد الدولي لانقاذ ما يمكن انقاذه، فقدت في ظل العولمة الاقتصادية 27 مليون فرصة عمل بعد الانهيارات الاخيرة في اقتصادها واقتصادات جيرانها من النمور سابقاً. وليس ما يحدث في روسيا اليوم او البرازيل سوى سلسلة انهيارات لا احد يعرف الى ماذا يمكن ان تؤدي في ظل السعي المحموم لفرض النموذج المنتصر من دون الالتفات الى ابعاد هذا التوظيف وامكانية التحكم بمساراته في ما بعد. وحتى لا تتسع دائرة الوجع العولمي ربما كان علينا هنا ان نتفقد حالنا العربية وان نترقب حجم تأثرها بمسارات العولمة المعلن منها دون الخفي. بقي العالم العربي يقترب من شبح العولمة ويبتعد حسب مكوناته التي تؤطر لنظمه السياسية والاقتصادية. ومع ادراك المنظومة العربية الاشتراكية - أو المؤسسة على الفكر الاقتصادي الاشتراكي نسبياً - بأن الفترة السوفياتية انقضت وبدأ الزمن الأميركي سيد الاقتصاد الليبرالي الحر ومبتدع منظومة العولمة والدافع باتجاه التعجيل بمساراتها. من هنا بدأت تلك الدول تحت الضغط المتوقع والملموس لاشتراطات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في التخلي تدريجاً عن القطاع العام، لكن هذا التخلي ظل متدرجا يراعي الهاجس الدائم لمنظومة الامن التي يمكن ان يفلت زمامها مع التحول السريع، كما كرست سياقاً اجتماعياً يشق عليه ان يتحمل تحولاً دراماتيكياً سيدفع ثمنه لا محالة بطالة وفقراً. وربما افرازاً طبقياً يزرع التوتر في بنى مجتعات ضعيفة اصلا، بل ان بعضها قابل للانفجار الاثني والديني والعرقي. هذا لا يعني انه لم يكن هناك تحول باتجاه اقتصاد السوق، بل ظل هذا التحول يفعل فعله نسبياً في منظومة القطاع العام القديمة، وتباينت وتيرته من بلد عربي لآخر. وظل في مجموعه تحولاً حذراً يحاول ان يمتص الصدمة الادارية التي احدثتها الادارة الاقتصادية الجديدة، وسط تخلف بيّن في الادارة الاقتصادية وادوات واساليب الانتاج، اذا ما قورنت بالمنتج الغربي الذي يضع في اعتباره اقتحام اسواق المنطقة العربية من دون عوائق او قيود. كما انها كانت تحاول ايضاً ان تمتص آثار هذا التحول على المستوى الاجتماعي كبحاً لتوترات ربما تدفع الى بطالة لا يمكن تقدير حجم الاذى الذي تخلفه في منظومة سياسة تراعي متطلبات الامن قبل اي شيء آخر. وفي هذا الجانب ربما كان من التجاوز اهمال النظام العربي الذي يستند في بعده السلطوي - كأي نظام آخر - على امتلاك السلطة والثروة، فالتحكم بالثروة شكل الى حد بعيد في النظم الشمولية آلية تهجين وكبح لجماح الرغبة الشعبية في المشاركة في السلطة، ما جعل التحكم في وسائل الانتاج وتوزيع الثروة قمة الوصاية الابوية التي مارستها السُلطات العربية والتي افادت منها في كبح جماح التحولات الاجتماعية لمصلحة استتباب الاوضاع السياسية والاجتماعية واستقرارها. وربما كان بطء التحول نحو منظومة السوق الحر واقتصاديات السوق كأول متطلبات العولمة الاقتصادية، مرده الى أسباب من بينها ترسخ الآلية الاقتصادية القديمة ونفوذ الحرس القديم والسياق الاجتماعي، وخشية النظم العربية من ان التخلي عن التحكم في الآلية الاقتصادية لمصلحة القطاع الخاص والشركات الدولية قد يضعف من امكانية تحكمها في توزيع الثروة والتحكم في منافذها. هذا بالاضافة الى ادراك تلك النظم ان الاندماج في منظومة الاقتصاد المعولم يعني استتباب الامر للفكر الليبرالي الرأسمالي الذي تتجسد آلياته الاقتصادية في الرأسمالية الغربية - المعولمة في طوره الحديث - وآلياته السياسية في الفكر السياسي الذي يقوم على الاقتراع الديموقراطي الحر والتعددية السياسية وتأكيد حقوق الانسان. هذا التلازم وان كان يمكن فصله الى حين، الا انه سيظل في الهاجس السلطوي العربي اداة يمكن للمعسكر الغربي العالمي ان يحركها. واذا تجاوزنا هذا التأويل السياسي الذي يبطيء عجلة التحول العولمي في العديد من الاقطار العربية فلعلنا نقترب اكثر من ادراك اشكالية هذا التحول على المستوى التقاني - الاقتصادي والتي قد تقود في نظر البعض من التقانيين الى تخريب متعمد لاحتمالات التطوير الصناعي المستقبلي، حيث يمكن ان تحول دون التراكم التقني العربي. وللتدليل على ذلك ربما نتناول صناعة الدواء في بلد كمصر التي ربما رأى البعض ان فترة السماح لعشر سنوات قادمة قادرة على تطوير تلك الصناعة لتكون في مستوى المنافسة الدولية قبل سريان مفعول اتفاقية التجارة العالمية. وتلك النظرة المتفائلة جداً، بل الحالمة، تتجاهل ان تلك الصناعة التي ظلت تتراكم خبراتها ربما تندثر مع فتح اسواق دولة كبرى كمصر امام منتجات الدواء المنافسة القادمة من دول العالم الصناعي، مما يوقف عجلة التطوير المحلية ويقضي على تراكم الخبرة البشرية والتقنية ويزيد البطالة ويهدر الطاقات العلمية. ذلك مثال واحد فقط يمكن ان يدلل على الخطورة التي قد تترتب على تمرير اتفاقيات من هذا النوع، ومن نافلة القول ان تلك الاتفاقية ربما اتت ثمارها في منظومات متشابهة ومتقاربة من حيث فرص تطوير المنتج والقدرة على تسويقه، وليس في المنظومة العربية الصناعية والاقتصادية. ومن الغريب ان تستثني تلك الاتفاقية سلعة العرب الاولى من حرية التجارة، فلا يزال النفط كسلعة خارج هذه الاتفاقية، وكأن المفترض ان يظل للغرب السيطرة الفعلية على اسواقه بما فيها فرض الرسوم على وارداته، اذا استبعدنا امكانية فرض ضريبة اخرى على النفط في الوقت الحاضر، ضريبة الكربون، باعتبار انه المسؤول الاول عن التلوث البيئي وارتفاع درجة حرارة الارض، وتلك حجة ليس ما يؤكدها علمياً ويثبتها حتى الآن. * كاتب سعودي.