نادراً ما تعرضت السلطات العربية لتحليل يتناول رموزها وفولكلورها واشكال تعبيرها التمثيلي والجسماني. وربما كان العمل الاهم هنا كتاب كنعان مكيّة "النُصب" حيث يصف السلطة العراقية انطلاقا من تمثال ومن طقوس. لكن اذا كان نظام بغداد الفاقع التعبير قد سهّل نسبياً مهمة مكيّة، فان مهمة ليسا ويدين لم تكن بنفس السهولة. ذاك ان موضوعها ينطوي على غموض دل اليه عنوان كتابها "غموضات السيطرة: السياسة والنبرة والرموز في سورية المعاصرة" منشورات جامعة شيكاغو الذي درس اللغة والحشد ووظائف الحيّز العام، فضلا عن الكاريكاتور والفيلم والمسرحية والنكتة، من دون ان يتجاهل... الصمت. وهي لئن اضعفت عملها قليلاً بشدة اعتمادها على النظرية ما بعد البنيوية بلغتها المزعجة والضعيفة الكتابية، يبقى العمل واضحاً جداً في "تفكيكه" الغموض السوري. والاخير ينجم عن مسافات عدة منها تلك التي تفصل ما يشيعه الرسميون عما يؤمنون به. هكذا يستحيل ان لا يختبر المرء ذاك الفارق بين ما يمكن تمثّله حالةً كاريزمية منتجة للولاء، وبين الصورة الاخرى الباعثة على القلق. فعلى رغم عظيم الانفاق على الشخصنة، يبقى ان نقصاً عميقاً يشوبها حائلاً دون اداء وظائفها المفترضة، وباثاً قدراً من السينيكية في جوهر العلاقة هذه. فاذا كان كل الشعب قادرا على اعادة انتاج شعارات النظام، فهذا ما يقول لنا ان قدرة النظام على فرض الطاعة تتركز في السلوك الخارجي اساساً. ذاك ان الصورة المحيطة بذروة السلطة هي بذاتها استراتيجيةٌ سلطويةٌ ترتكز على الاذعان. وهذا ما ينتجه الاذعان عبر الاسهام الكثيف في طقوس الطاعة التي يستشعر القيّمون عليها ومستهلكوها انها زائفة. وبهذا فصورة اعلى الهرم اداة في احلال نظام اجتماعي يولّد السياسة بصفتها اخفاءً وتقنيعاً، بحيث يتصرف المواطنون "كما لو" انهم يحترمون ما يريد النظام ان يحترموه. ولئن ظهرت للوهلة الاولى سياسة "كما لو" لاعقلانية، او ربما بلهاء، الا انها ذات فعالية واضحة. فهي ترسم خطوطا للقول والسلوك، مُعرّفةً ومُعممة نمطاً معيناً في العضوية الوطنية والاجتماعية. وهي تخلق الاذعان وتبثّه في العلاقات عبر ايجادها ممارسات يكون فيها المواطنون هم انفسهم "متواطئون" على اذعانهم، اي انها تعزل المواطنين واحدهم عن الآخر وتملأ الحيّز العام بشعاراتها ومناسباتها. وهذا ليس للقول إن النظام لا يملك أية شرعية او قناعة، فالخطاب الرسمي يقدم احيانا قناعات اجماعية ولو بثنائىة تُفقر الصيغة الاصلية. وعلى الاقل فان ثلاثة معتقدات مجمعا عليها تجد تعبيرا عنها في الخطاب الرسمي: الاولى ان النظام يدافع عن المواطنين في مواجهة المخاطر الاسرائيلية، والثانية ان الجولان تنبغي اعادته، والثالثة ان الحكم الحالي انتج استقراراً غير مسبوق في البلد. ويلعب المثال اللبناني دور التنبيه الى عواقب العيش في ظل دولة غير قوية. وهذه التقاطعات الواسعة تعني ان في وسع النظام القفز فوق الحاجة الى الشرعية، والاكتفاء بالاستثمار على جبهة النبرة والرموز. والواقع انه لا يستطيع التعويل على مصادر شرعيته في الدين والتديّن، ولا في الثورية المضطرمة، لأنه ليس دينياً او ثورياً بأي معنى مضطرم. وبمقارنة التجربة السورية في بناء الامة الدولة بمثيلاتها الاوروبيات، تتوضح ازمة الاولى. فقد كان على دمشق ان تتحرك بسرعة لتطوير جهاز دولة قادر على توفير الخدمات والسلع مقابل الطاعة. اما الحاجة الى تصنيع وعي وطني متمحور حول الدولة، فارتبطت مباشرة بالشخصنة على نحو مختلف تماما عن اوروبا. فعلى صعيد التمثيلية، تسجل الشخصنةُ المفارقةَ التي تقع بين تشكيل الدولة وبناء الأمة. فمن جهة تعمل ما عملته عبادة الحكام المطلقين في اوروبا، واضعة الدولة ورمزها فوق المجتمع. اي انها تجسّد وتكثّف محاولة التمييز بين النخبة المقدسة وبين باقي السكان الزمنيين، فيما تسبغ كاريزما الفرد صفات غير عادية على المنصب. لكن من جهة اخرى، وبما يتماشى مع التصورات الحديثة عن المساواة الشعبية والهوية القومية، تضيّق الشخصنةُ الفجوةَ بين الحاكم والمحكوم فيصير الاول "واحداً منا". فهو، بالتالي، ليس فقط الاب والقائد، بل ايضا الاخ والمناضل وابن الشعب. وهكذا فعلى النظام الرمزي المعمول به ان يحيط بمسألتي السلطة السياسية ومفهوم الجماعة. وبهذا الدمج الاهلي-ا لسياسي تنتج الشخصنة حلاً على المستوى الرمزي لمشكلتي بناء الدولة والامة. وكان فوكو قد رأى ان الدول الاوروبية تعاظمت قدرتها على تنظيم رعاياها وتأطيرهم من طريق تقنية سلطوية سميت "النظام" حلت محل مشهديات العقاب العام. فالدولة صارت اكثر فاكثر اعتماداً على مواطنيها كيما يقوموا هم بالسيطرة على ذواتهم، ثم استدخل الغربيون انماط السلطة وعلاقات السيطرة. لكن هذا لا يصح في سورية حيث لا يزال الانتظام المشهدي قويا جدا من غير ان تكون له صلة له بواقع الحياة اذ السوريون، مثلا، لا يقفون في الصفوف كما يفعل البريطانيون لحل مشاكل يومهم. وهنا نقع على المصادر الفعلية للشخصنة: فالمشهدي، اولا، يبث النظام في المشاركين وينظّمهم للقيام بالاداء الجسماني للاشارات الطقسية كما يؤطّر اجسامهم في نظام يرمز الى الطاعة السياسية ويمهّد لها. والمشهديات، ثانياً، ليست فقط تحضيرات للسلطة بل هي نفسها تطويعات لها. وهي، من ثم، هي تخلق سياسة التظاهر والادعاء التي يتسابق الجميع على المشاركة فيها مع ان قلة قليلة هي التي تؤمن بها. والمشهديات، ثالثا، تعمل مرساةً بصرية وسمعية للافكار ذات الاهمية السياسية ولتجسيدها ماديا. انها تزرع "فكرا سياسيا" في صور النظام ورموزه فتؤطّر الطرق والوسائل التي يرى الناس بموجبها الى انفسهم كمواطنين، تماما كما يفعل الاعلان اذ يحمل الناس على النظر الى انفسهم كمستهلكين. فالاجسام المعسكَرة والمُخضَعة لنظام صارم هي دائماً معبأة للقيام بالفروض الرمزية في الساحات والملاعب، او لتشكيل وجه الرئيس من طريقة اصطفافها. ويتلقى الاطفال تمريناتهم من خلال العضوية في منظمات مبنية عسكريا بما يشجع على الانتظام الذاتي. ذاك ان المشهد يجعل السلطة منظورة جماعيا. وهذه العروض الايقونية الطابع انما تزرع التجارب الجماعية في صور الاشخاص المطروحة على العموم. وتعزز هذه الانواع من المشهديات نوعا من "المشاركة" السياسية قائما على تعبئة الرجال والنساء كي ينتجوا رسائل رمزية ويقوموا بادوار جسمانية تمجّد المُشخصن. بطبيعة الحال ليست المشهديات الموسّعة حدثاً يومياً، الا ان ما يُقتطف منها يخضع لاعادة انتاج متواصلة، وعلى سنوات، في التلفزيون والصحف. ونشر الشخصنة من خلال المشهدي يساعد في تعزيز مخزون النظام من الرموز، فيما يضمن بقاء السكان متآلفين مع التمجيد الرسمي واعادة انتاجه. فالمشهديات تزحم المكان العام وتهندس الصور والمفردات التي تؤكد الاذعان. وبهذا فالشخصنة، حتى حين لا تُصدّق، تبقى ميكانيزماً قوياً، ولو غامضاً، في احداث السيطرة. وتستقي الشخصنة ومشهدياتها استلهامها الجمالي من الواقعية الاشتراكية لستالين. فحتى زمن قريب كانت دمشق تستأجر وتستعير الاخصائيين السوفيات كي يساعدوا في هندسة المشهديات ويدرّبوا المشاركين فيها. ومثل فن الواقعية الاشتراكية، فالفن السياسي السوري ينقل، عبر الشخصنة، تجسيدا ل"المواطن" الذي هو النمط البدئي للعامل والفلاح والجندي بل ايضا للمرأة. فيتمثل المشخصن بوصفه الاب الاخير في السرد السياسي المرتكز على العائلة ومؤسستها. ومع ذلك تبقى فوارق اساسية: ففي دمشق لا يوجد المركز المادي لاستعراض القوة المقدسة كما هي حال الساحة الحمراء بموسكو. ثم ان عبادة ستالين هي عبادة الجيل الثاني لأنه ورث لينين وعبادته، لكنه مع هذا لا يتشارك مع قادة آخرين، او مع وجوه عائلية معروفة. اما هنا فنحن حيال نظام عائلي صُوَر افراده ووجوهم معروفة. بل ان مدى العائلية الموسعة تمتد لتضم لبنانيين قضوا في القتال ضد اسرائيل فضُمّت صُوَرهم الى المشهديات الاستعراضية. وفي المقارنة بالعراق يملك الاخير عائدات نفطية يخصصها للمؤسسات المعنية بانتاج رموز السيطرة. اما في سورية فلم تتوافر الامكانات التي تسمح ببناء ما يشبه "قوس النصر" العراقي. ولأن المدن لعبت في سورية الحديثة دوراً لم تلعبه في العراق، ترتبط الشخصنة بثياب غربية فيما يظهر صدام احياناً بثياب بدوية. كذلك فصورة صدام، كشخصه، متحركة ومتأججة، والجهود متواصلة لتوكيد فُتوّته. وهو اخيراً يملك اكثر من اربعين قصرا. اما الشخصنات الاخرى فتخلو من هذا التخييل الميثولوجي كله. وهذه الفوارق توحي ان الشخصنة التي نحن بصددها تقع في مستوى ادنى من السيطرة الصدامية والستالينية. فما نتعامل معه سبق ان وصفه فريدريك الكبير الذي قال انه لا يعبأ بما يظنه رعاياه ما داموا يقومون بما يأمره به. وبحسب باتريك سيل فان الشخصنة صاغها وزير الاعلام الراحل احمد اسكندر احمد بعد حرب 1973 وكان عارضها الوزير الذي سبقه جورج صدّقني في محاولة منه لتحويل الانظار عن مشكلات فعلية. ومع اواخر السبعينات ولا سيما مع 1982 تعاظمت تعبيراتها، ومع المرض تم تطعيمها ببُعد مقدس لا يطوله الزمن بعدما اقتصرت قبلا على الزمنية. وفي الاحوال كافة ففي 1984 وضع النصب الاول في مكتبة الاسد بدمشق وراحت النعوت تُسبغ أكانت من نوع الثنائيات المتضاربة رجل الحرب والسلام، ام من نوع التكثير والاضافة المهندس الاول، الطبيب الاول، الجندي الاول.... وهذه التناقضات وجدت ما ييسرها في الغموض الاصلي للايديولوجيا البعثية التي شاءت حشد فئات وطوائف وطبقات متنافرة لمهمة بناء الأمة - الدولة، وفي ان تنوع درجات النبرة يُظهر مدى تقريب المتملّقين المتنافسين وتشجيع منافساتهم بما يؤدي الى السماح بتجاور مواقف مختلفة. والى ذلك ربما كان لتفادي التفاصيل والاكتفاء بالشعار العام، تجنيب الاعتراف بالمحرج او ما لا يجوز الافصاح عنه. وهذا في موازاة تعزيز الاعلام عمليةَ سيطرة الدولة على الحيّز العام عبر معادلات تحكم الخطاب والسلوك العامين. وما دام ان خلافات كبرى تقيم داخل المجتمع، يناط بالنبرة الرسمية استئصال الحقائق، تاركة للنظام احتكار التأويل. والنبرة ايضا تحذف الاحداث المعروف على نطاق واسع انها حصلت. وذلك عن طريق الرقابة كما عبر تعميم انصاف الحقائق فضلا عن اشاعة المعادلات والشعارات التي تحد من عمل الخيال، وعلى رأسها الشخصنة. وقد سبق لحنه ارنت ان كتبت ان "الكذب المتماسك" في المجال العام "ينزع الارض من تحت اقدامنا ولا يترك لنا اية ارض نقف عليها". وبالتالي فالكذب المنظّم يضيّع بوصلة اولئك الخاضعين دوما لمفاعيله، شالاً قدرتهم على المبادرة. وكثيرا ما يقدّم الإعلامُ الاحداثَ، لا مجزوءة فحسب، بل ايضاً ضمن ثنائية الخير والشر. الا ان الرقابة حين تتكتم عن حدث تحول تماماً دون مناقشة الجمهور لهذا الحدث المتصل بحياتهم ويومياتهم. ولما كان تحريم الكلام العام لا يردع الناس من التحدث، اتسع عالم المحرم والسري بقدر ما انكمش الحيّز السياسي الرسمي، كما ذاعت الشائعات والخبط العشوائي في ارسال التقديرات. وتتجسد ايضاً قدرة النظام في تقديم تأويله للحدث التاريخي كتأويل اوحد غالباً ما تكون له دلالات وامتدادات في الحاضر، كالخلط بين معانٍ راهنة ومعاني ما قام به صلاح الدين. وتستطيع الايديولوجيا الرسمية، ومن دون ان تكون ايديولوجيا هيمنة بالمعنى الغرامشي، ان تنظّم السلوك العام في ما خص النظر الى التاريخ وتعاقبه ووظيفته، وصولاً الى المعنى المرغوب للصواب السياسي اليوم. وعلى العموم ينشأ عالم عبّر عنه احد السوريين بقوله: "منذ اللحظة التي تغادر فيها منزلك تسأل: ما الذي تريده السلطة؟ فالناس يكررون ما يقوله النظام. والصراع ينشأ حول القدرة على امتداح الحكومة اكثر. الناس على هذا النحو يتنافسون... وبعد عشر سنوات تصبح هذه اللغة لغتك. الذين هم اكثر احتراما لانفسهم يقولونها اقل من غيرهم". واذا كانت هذه اللغة فقيرة جدا لا تتعدى خمسين او ستين عبارة، غير انها مستَدخَلة منذ 1970. وهذا القتل للسياسة تُستَحضَر لتعزيزه رسائل التأييد والمقالات والقصائد لتغطي مجموع الخريطة المهنية والعمرية والجنسية والمناطقية والدينية، بحيث يتراءى كأن الاجماع المعقود حول هذه الرواية راسخ لا يتزحزح. لكن الشخصنة تستحث دائماً المجاز العائلي المألوف فيما تتسع شبكة الأيقَنة لتشمل الابناء والاهل في صورة موسّعة. وهذا التشبيه للعلاقات السياسية بعلاقات عائلية ليس جديداً ولا هو بحكر على بلد بعينه. والحال ان الثورات تحمل دائماً افكارا وصورا عن ابوة تأسيسية ما. فالثورة الاميركية ارادت احلال "الآباء المؤسسين" محل ابوة الملك جورج وامومة بريطانيا. وقد داعبت اهلَ الثورتين الفرنسية والاميركية فكرة اعادة اختراع اهلهم، فجاء قاموسهم السياسي ليعبّر عن هذه الفانتازيا. لكن ما يختلف، هنا، ان الأبوّة المعتمدة لا يبدو انها تعكس رغبةً في اعادة اختراع الاهل. بالعكس تماما تعمل المجازات العائلية على تقديم العلاقات المؤمثلة للسيطرة والاستمرارية فيها وعليها. فالبناء الذي تنشئه الشخصنة للعائلة الوطنية انما يستمد تماسكه من نوع العلاقات الأسرية ومضامين السيطرة في ثقافة معينة، فتتموضع السلطة داخل هرم العلاقات العائلية والقيمية المعطى. فالابوة في هذه الحال كالابوة في العائلة انما اكبر بما لا يُقاس، وكذلك الحب والتبجيل وباقي المشاعر. لقد تم ترميز بناء الأمة في سياقه السوري، عبر رفع الرابطة الابوية من مصاف عائلي الى آخر اسطوري ووطني. وكانت حرب تشرين محطة اساسية في تعاظم هذه الظاهرة من دون ان تخلو من تمهيدات. فمع وصول البعث الى السلطة في 1963 فقدت العائلة بعض وظائفها لصالح الدولة المتوسعة الى حقول جديدة، ما تزايد مع حرب 1967 والاعباء الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية التي تسببت بها. لكن حرب تشرين وفّرت الفرصة لاجتماع البُعد الوطني مع التأليف الميثولوجي مقرونين بقيم التضحية والرجولة والفروسية والسلام والمُدافعة عن الارض والعرض. وهذه الابوة الرجولية تستجيب، في حسبة جماعية عربية، لصورة فلسطين كأنثى مغتصبة تبحث عن مخلص. لكنها تستجيب ايضاً لمحاولة بعثية رعاها زكي الارسوزي لاشتقاق "الأمة" من "الأم". وفهمُ الأمة بصفتها مربوطة رمزيا بالرحم والامومة كشرط مسبق للاخوة، هو ما تدور عليه اعمال "فنية" وجدارية كثيرة، لكن صورة اللبنانية سناء محيدلي ربما كانت الاكثر شيوعاً في هذا المجال. فهي ادخلت المرأة في المجاز هذا من اعرض ابوابه. فالنساء ايضا، وهن "بنات" الأمة، يمكن ان يضحين من اجل الام والاب، اي العائلة الوطنية. وهن اصبحن، منذ مصرع محيدلي في 9 نيسان ابريل 1985 في عملية انتحارية ضد الاسرائيليين، جزءا من النبرة المحيطة بالشهادة القومية. فبعد ان افتُتح احد الخطابات الرئاسية بالحديث عنها غدت من ايقونات الكلام السوري، فيما حذت حذوها فتيات لبنانيات اخريات اطلق عليهن لقب "عروسات الجنوب" الذي يتلاعب على فانتازيا الزواج كجزء من طقوس العائلة. لكن محيدلي ورفيقاتها، بعد تمريرهن في الاستخدام السوري، يتحولن صائغات لشكل الطاعة المدنية المطلوبة. فالدم الذي تذرفه محيدلي، وتنقله صورها، هو دم النقاء الذي يُسقى منه الشعب والامة، فيما العرس الذي ينعقد لها هو عرسهما الذي يتحقق بالموت بحيث يأتي دمها، هي العذراء، ارفع من دم العرائس اللواتي يتزوجن بمعنى فعلي غير مجازي او مؤمثل. وهذا يجعل منها بنتا للمشخصَن، بالمعنى الذي يشير فيه هتاف "بالروح، بالدم، نفديك..." الى سخاء الروابط التي تتأسس على الدم وعمقها. فالخضوع والروابط الجماعية تنبني على سلسلة قرابية تجد تتويجها في شخص القائد الذي ينبثّ في جوانب الحياة العامة كلها ويدخل في الكلام بمعانٍ لا حصر لها: فاذا تعرّض شخص ما لظلم، او دخل في مشادة مع شخص آخر، امكنه الاستعانة بذكر الاسم او ترداد هتاف سياسي يحييه. فهذا ما يقي الأذى الا انه ايضاً يعيد، تعويذيا، توزيع اللغة الرسمية فيصادرها لمصلحة المواطن العادي ضد رسميٍ ما في السلطة. ويتصرف السكان، بالتالي، كما لو ان الدولة تستطيع الانبثاث في اكثر حيّزاتهم حميمية، بل كما لو ان قدسيتها تتصل، شكلا ومحتوى، بأحلامهم. فهي، اذن، يسعها السيطرة على دواخلهم اكثر مما يستطيعون هم انفسهم. ولما كان بعض الاحلام، وهي مزعومة طبعاً، يُفهم منه الحب للأب الاعلى والاتصال بالابناء، اي الشعب، على احسن وجه، يتبدى ان الاحلام نفسها قابلة للتسخير لمصلحة تعريف الدولة للجماعة وقيادتها، ومن ثم دليلا على محض الولاء والاذعان. والحال ان لغة الشعب بل مخيلته موظفتان يوميا لتوكيد الفضائل السلطوية والابوية السياسية، وبناء عالم دلالي مستوحى من معادلات النظام. فالطاعة الوحيدة الحقيقية خارجية، اي ان الطاعة حين تتولد عن قناعة لا تكون حقيقية لأن ذاتيتنا تتوسّطها. اي اننا اذاك لا نطيع السلطة بل نتبع ما نعتقده صحيحا. وهو امر قابل للانقلاب الى نقيضه، وغير مأمون بالتالي. فالهيمنة والشرعية تفترضان مسبقا درجة من التصديق او الالتزام العاطفي مما لا يستدعيه الاذعان. والبقّال التشيكي الذي يرفع شعار "يا عمال العالم اتحدوا" على واجهة دكانه لا يرفعه، بحسب فاكلاف هافيل، لأنه مؤمن به بل لأنه يبغي البقاء على قيد الحياة. فالشعار، اذن، يعمل كعلامة خارجية لا كدليل قناعة داخلية. والناس يستخدمون العلامات لأنهم استدخلوا السيطرة. وهكذا يتصرفون "كما لو أن"هم يصدّقون، فيعيشون في الكذبة. لقد رأى ريتشارد رورتي ان آثاراً سياسية وبسيكولوجية تترتب على معرفة المرء بنفسه كشخص طائع. فلماذا كان من الضروري في أوبراين الجلاد الرسمي في رواية اورويل "1984" ان يجعل وينستون الضحية وبطل الرواية يصدّق لوهلة ان 2 و2 يساويان 5؟ فهذه نتيجةٌ ليس وينستون وحده من لا يؤمن بها، بل ايضاً أوبراين. وجواب رورتي هو رغبة أوبراين في تحطيم وينستون: "فدفع شخص ما الى انكار ما يعتقده للاسببٍ، هو خطوة اولى لجعله عاجزاً عن امتلاك ذاتٍ" تقوّم ما يحيطها وتعقلنه. ان المعايير الضمنية والصريحة للنبرة تعمل على تمييز الحدود الفاصلة بين المقبول وغير المقبول. فالمنشور والمُذاع من كوميديات ورسوم كاريكاتورية يوافق عليهما الرقيب تبعاً لخطوط عريضة تحددها وزارة الاعلام. والكوميديات المرخص لها تدل الى التجربة المشتركة العريضة القائمة على عدم التصديق، بقدر ما تجسّ حدود الممكن بطرق شتى. والحال ان كل هذا النوع من الكوميديات والمسرحيات والافلام كانت شعبية جدا بعدما عرضها التلفزيون، وهي متوافرة للفيديو. كما انها تسلّط الضوء على التباين بين الخطاب الرسمي وبين الحياة السياسية كما يعيشها المواطنون فعلا. لكنها تسخر من النظام تبعاً لمعاييره الايديولوجية كما لو لم تعد هناك للسوريين لغة اخرى تقاس عليها الامور. فالفشل والنجاح يحاكَمان بمعايير ايديولوجيا النظام، كتحرير فلسطين او اقامة الوحدة. ومع هذا الفقر يبقى ان استخدام لغة النظام ورموزه يخرّب نظام الدلالات الرسمي، باستخدامه للمسموح الى الحد الاقصى. والذين "يقاومون"، بالمعنى السوري، هم الذين يتحدّون المعاني الرسمية والصيغة المؤمثلة التي يساوي النظام نفسه بها. وهي مقاومة لا تكتفي بتخريب السائد او بمصادرة معاني نبرته، بل ايضا تحطم الآثار النظامية المصحوبة بالخطاب وممارساته. فاذا كانت الشخصنة تعزل المواطنين وتجعل تقييم واحدهم للآخر يمر بها بالضرورة، تبعاً لسيطرتها على الفضاء العام وعلى اللغة، الا ان الاعمال الفنية، وكذلك النكات، تحاول تحطيم أوالية السيطرة. والممارسات هذه تدل الى الهوة بين الاذعان والتصديق. انها تساعد على انشاء الحيّز العام التخيّلي والقصصي البديل، حيث لا يُستحضر الخطاب الرسمي الا لنقده او السخرية منه. والنشاطات الثقافية المسموح بها هذه ليست بمنجاة من الاذعان الا انها تشير الى ان السوريين على بيّنة من الطرق التي تعمل فيها مساهماتهم على تعزيز النظام وتقويته. والحال ان عمل الكاريكاتير والافلام وغيرها من داخل نظام مفهومي مشترك، يدل الى قوة النظام ومحدودية المقاومة. لكن المشاركة في نظام مفهومي هي وحدها، في ظل نظام كهذا، ما يجعل المقاومة ممكنة. فالخطاب ينطوي اذن على الخطوط العامة للطاعة وعلى مواد تخريبه. وما دامت المعارضة المنظمة غير مسموح بها، فان اللغة والشجاعة التي يستدعيها التحدث مع الآخرين هما ما قد تتأسس عليهما معارضة المستقبل. لقد تمنى الرئيس شكري القوتلي للرئيس عبدالناصر ان ينجح في حكم سورية حين سلّمه مقاليدها في 1958. لكنه، مع هذا، حذّره من صعوبة الأمر بسبب اعتداد السوري بافكاره وقناعاته وتنبؤاته. ووصف القوتلي يبدو بلا معنى اليوم حيث ضمر التسييس والاعتداد ضموراً بعيداً. والحال ان نزع التسييس الذي بدأ مع وحدة 1958 هو ما تزايد مع الاحتكار البعثي للسلطة، الا انه لم يتصلّب ويتجاوز تناقضاته الداخلية قبل 1970. ومذّاك صُنع وضع لم يعد ضروريا معه استخدام القوة، بل يكفي استعراضها لأن "خوف" الناس من العقاب الذي تصوّره رموز و"فنون"، يكفي لحملهم على الاذعان. * كاتب ومعلّق لبناني.