"الصورة" التي يرسمها المثقف انطون المقدسي عن الوضع العربي عموماً والسوري تحديداً "قاتمة" لأنه يسعى الى مواجهة "الحقيقة" كما يراها عندما يفتح عينيه "كي أرى الواقع كما هو". لا يتفق كل المثقفين السوريين مع المقدسي في آرائه. يعتبره بعضهم "مثقفاً شفوياً" نتيجة عمله كمدرس للفلسفة منذ العام 1940 أو "مثقفاً ادارياً" نتيجة عمله 35 سنة مديراً للتأليف والترجمة في وزارة الثقافة، لكنهم يجمعون على احترامه ك"استاذ". عندما كان أصحاب "بيان ال99" يصيغون بيانهم استشاروه، وفي مرحلة صوغ "الوثيقة الأساسية" ل"لجان المجتمع المدني" لم ينقطع ميشال كيلو عن زيارته في منزله وقال له: "نحن اليوم نتدرب على الكلام، لقد أضعنا"، فرد المقدسي "ربما لم نتعلم فن الكلام". يعتقد المقدسي 84 سنة ان المقالات التي صدرت بعد "بيان ال99" وما قاله رئيس "الحزب الشيوعي - المكتب السياسي" رياض الترك بما في ذلك "بيان الألف" لم تتضمن "جديداً". ويستدرك: "بل على العكس، عوضاً من شرح "بيان ال99" جعلته غامضاً، أفكاره متداخلة، تقرأ فكأنك في متاهة". وأكثر ما أخذ على المثقفين في نشاطاتهم التي جاءت بعد الاجراءات الاصلاحية الأخيرة ان "الشعب لا علاقة له على الاطلاق بما يكتبه المثقفون". ويزيد: "انهم يرتجلون الكلام" و"اننا ما برحنا نرتجل منذ الاستقلال" من الاحتلال الفرنسي. يتردد المقدسي كثيراً قبل أن يقول شيئاً يتضمن التفاؤل الكامل، وأي أمل يستدركه ب"قد" و"ربما"، إذ يقول "نحن امام تحولات تنقلنا، أو قد تنقلنا، الى بداية القرن الواحد والعشرين" وان "الطريق الى المجتمع المدني اذا سلكناه بجرأة قد ندخل" هذا القرن. لكنه يقر بأن ما تشهده سورية منذ أشهر هو "تغيير في خط سير الحياة السياسية بنسبة 180 درجة، أي تغيير كلي". وربط سيرته الذاتية ب"الرسالة الموجزة الى سيادة الرئيس بشار الأسد بعد القائه بياناً عن سياسته لدى حلف اليمين الدستورية جواباً على سيادته ان الديموقراطية هي الرأي الآخر" في تموز يوليو الماضي. وهنا نص الحديث: اتخذت السلطات السورية أخيراً عدداً من الاجراءات الاصلاحية، كيف تقوم هذه الاجراءات؟ - ان الفكرتين الرئيسيتين في بيان الرئيس بشار الأسد يوم حلف يمين تسلم الرئاسة هما: ربط الديموقراطية بالرأي الآخر بقوله "ما عليك علي" وفكرة احلال "الدولة" محل "الزعامة" ليستا اصلاحيتين، ولسنا مع رئاسة الدكتور بشار امام حركة تصحيحية جديدة، بل تغيير في خط سير الحياة السياسية في سورية بنسبة 180 درجة، أي تغيير كلي. هذا ما أدركه المثقفون بسرعة. فابدال الرأي الواحد بتعدد الآراء، وابدال التشريعات الاستثنائية بالتشريعات العادية، وفك احتكار "حزب البعث العربي الاشتراكي" ما يدل الى أن يوماً ما ستتشكل عندنا أحزاب عدة، وابدال المجتمع السلطوي بالمجتمع المدني. هذه النقاط الثلاث وغيرها تدل الى اننا دخلنا مرحلة جديدة من الحياة السياسية في سورية لها ارتكازاتها على الحياة الاقتصادية الاجتماعية الثقافية من دون شك. لقد كان "بيان ال99" وما قاله رياض الترك رئيس الحزب الشيوعي - المكتب السياسي في ملحق "النهار"، يتضمنان كل ما طلب المثقفون ويتمنون ان يتحقق. اما ما صدر بعد ذلك من بيانات كثيرة ومقالات أكثر ومنها ما أطلق عليه "بيان الألف"، كلها لم تتضمن شيئاً جديداً بل بالعكس، عوضاً من أن تشرح "بيان ال99" جعلته غامضاً، أفكاره متداخلة. تقرأ فكأنك في متاهة. قلت ذلك لميشال كيلو فقال لي: "نحن اليوم نتدرب على الكلام، لقد أضعنا". ربما لم نتعلم فن الكلام. على أي حال، نحن في بداية الطريق الى تحولات كثيرة تنقلنا أو قد تنقلنا تدريجاً الى القرن ال21، بعدما كنا نعيش في ظل احتكار حزب "البعث" للسلطة في بدايات القرن العشرين، أي في مرحلة من التاريخ حدد معالمها الكبرى ستالين، صارت اليوم وكأنها من الماضي البعيد جداً. بكلمة، الى جانب التخلف الحضاري هناك تخلف عن المرحلة التاريخية بحوالى قرن، وكأننا مع روتين بيروقراطية الحزب الواحد نراوح مكاننا. وفي الحياة اما ان يتقدم الانسان أو يتأخر، فالذي يراوح مكانه يتأخر بالضرورة. لكن كيف ترى اجراءات مثل اطلاق 600 معتقل سياسي واغلاق سجن المزة وعدم التعرض الى الناشطين سياسياً؟ - قلت وأعيد هذه ليس اصلاحات، لكنه بداية طريق لا أدري متى وكيف ستكتمل لأسباب كثيرة أولها ان الذين سيتولون شؤون السير بهذه الطريق ليسوا من المستوى المطلوب. ما لم ينتبه اليه المثقفون في ما قدموا من مطالب واقتراحات هو الانهيار الثقافي... والانهيار الثقافي هو انهيار الانسان. لقد أعطيت للصحف حرية الكلام، يبدو ان صحيفة "الثورة" ارادت أن تقفز خطوة كبيرة الى الأمام بفتح صفحاتها للآراء المتعددة التي قد تكون متطرفة، لكن ما قرأته في هذه الصحيفة يدل الى أن المثقفين مقصرون كثيراً عن مرحلتهم. فبقية الصحف التي أقرأها من وقت لآخر لا تزال على روتينيتها القديمة لأن المحررين لم يعد بامكانهم التدرب على تبديل أفكارهم بأخرى تتجاوب مع متطلبات القرن الواحد والعشرين. الداء في الحزب من دون شك لكنه أيضاً في المثقفين. فبعض النصوص التي أقرأ في الصحف المحلية، وفي "الحياة"، متاهة من الآراء لكأن الكاتب يبحث عن طريق لا يعرف ما هي ولا أين يجدها. وصحيفة "الحياة" بالمناسبة، وهي أقوى صحيفة في العالم العربي، تقول ما ترى أن تقوله في البيانات السياسية. وهناك بعض الريبورتاجات عن الوضع الاقتصادي العالمي وما تبقى فيه الكثير من الحشو وسد الفراغات. لي شخصياً مع "الحياة" تجربة مريرة أفضل إلا أذكرها هنا. كيف هناك انهيار ثقافي كامل؟ - على أي حال الذي يعوز في السياسة أو في الثقافة هو الانسان لأن الانسان العربي عموماً والسوري خصوصاً ليس مهيئاً لمواجهة حضارة القرن الواحد والعشرين. الأهم من ذلك هو أن المفكر العربي اليوم كما في الأمس القريب والبعيد لا يجيد استخدام المفهوم. هذا كان جائزاً يوم كانت ثقافتنا أدبية خالصة في العصور العباسية وما بعدها، وفكرنا في الأدب أكبر مما هو في النصوص المفترض أنها فكرية باستثناء قلة قليلة مثل ابن خلدون، هذا لم يعد جائزاً الآن. اذا قلت "مجتمعاً مدنياً" يجب أن أعرف أو أن يشكل في نفسي فكرة واحدة عما هو "المجتمع المدني". هناك فروق دقيقة بين "مدينة" و"مدنية" و"مجتمع مدني". ما هو الفرق؟ - يجب تعريف كل مفهوم على حدة. يبدو لي اننا نحن العرب لا نزال نحمل الى اليوم وفي القرن الواحد والعشرين رواسب البداوة. هذا واضح في العلائق الاجتماعية والعلائق مع الدولة إذ الشخص والعلاقة الشخصية أهم من القانون والعلاقة التي يفرضها القانون. كلمة "مدنية" وجدت لتكون مرادفة تقريباً لكلمة "حضارة". و"الحضارة" من الحضور والبدوي ليس حاضراً دائماً هو يوماً هنا ويوماً هناك. "المجتمع المدني" لقد حاولت تحديده أكثر من مرة: هو المجتمع الذي يشكل افراده المؤسسات التي تشرف على تدبير شؤون هذا المجتمع. ومنها في الدرجة الأولى "البلدية" و"المختار". فلا نزال نعيش على تركة السلطنة العثمانية حيث البلدية عندنا دائرة ضعيفة والقرى خاضعة هي والمختار لمدير الناحية. وأمانة العاصمة - التي هي بلدية العاصمة - دائرة من دوائر "حزب البعث العربي الاشتراكي". المحسوبيات تلعب فيها دوراً كبيراً. في دمشق مثلاً أحياء محددة المعالم كل منها بشيء من الدقة. منها: "المهاجرين" و"الشيخ محيي الدين" و"القصاع" و"الميدان". المجتمع المدني يقوم على أن يكون لكل حي من الأحياء بلدية رئيسها يطلق عليه اسم "مختار"، هي التي تهتم بكل شؤون الحي منها فتح المدارس وشق الطرقات وتنظيم الشوارع والنظافة. ف"المختار" في نظام الحكم المدني هو الذي يجري عقد الزواج امامه والطلاق. والدول المتقدمة تعطي انتخابات البلدية من الأهمية ما للمجالس النيابية، فالمحافظ موظف ومدير المنطقة موظف، أما المختار الذي يدير البلدية فمنتخب. انتخابه من الشعب يعطيه سلطات سياسية ليست للمحافظ أو لمدير المنطقة اللذين عليهما أن يخضعا لتوجيهاتهما في الادارة. لكن يوجد في سورية وزارة ل"الادارة المحلية"؟ - هي صورة باهتة عما يجب أن يكون عليه "المجتمع المدني" لأن هي أيضاً خاضعة لهيمنة السلطة السياسية المتمثلة في حزب "البعث". أما الشعب في المعنى الدقيق للكلمة فلا علاقة له على الاطلاق بكل هذا، حتى ولا بما يكتبه المثقفون. لقد غيب الشعب منذ حوالى خمسين سنة. وكان في الماضي دائماً غائباً تحت الوصاية. هذا ما قلته بوضوح في الرسالة الأولى التي وجهتها الى الرئيس بشار الأسد. بتعبير آخر ان طريقنا الى "المجتمع المدني" وغيره من الاصلاحات المطلوبة طويلة، إذا سلكناها بجرأة قد ندخل اليوم القرن الواحد والعشرين. ليست الصورة قاتمة الى هذا الحد؟ - بل وأكثر. التخلف داء رهيب والسلطات المتخلفة أرهب لأنها لا تعترف لا بالانسان ولا بالشعب. والثقافة عندها في أحسن الحالات شيء كمالي. إذا سألتك انت شخصياً كم يوجد في سورية الآن وزير مثقف حقاً. ليس مطلوباً أن يكون كل وزير مثقفاً، يمكن أن يكون تكنوقراط؟ - من هو الوزير الذي له قيمة تكنوقراطية. الوزير عندنا موظف سياسي. الفرق بينه وبين الموظف العادي ان راتبه أعلى وصلاحيته أكثر وقدرته على التلاعب في شؤون الناس أكبر. قيل ان احياء "المجتمع المدني" يتطلب انجاز الدولة العصرية؟ - من الذي سيبني الدولة العصرية؟ نحن هنا أمام دائرة مفرغة. الدولة العصرية أم المجتمع المدني؟ التعددية وكيف؟ ان كل اجراء يتخذ في سورية مرتجل يستدعيه ظرف طارئ يفرض ذاته على الحاكم الحقيقي الذي بيده السلطة السياسية. وما برحنا منذ الاستقلال عام 1947 نرتجل. المثقفون يرتجلون الكلام. وهذا التعارض بين "المجتمع المدني" والدولة العصرية كلام بكلام اسأل من تشاء من السياسيين والمثقفين ما هي الدولة العصرية ومن الذي سيبنيها؟ تجد نفسك أمام مشكلة واحدة: غياب الانسان وغياب الشعب. هذا الكلام يقوي تيار المحافظين على تيار الاصلاح خصوصاً ان اي اصلاح لا بد من أن يأتي من النظام؟ - ان أدق تعريف للتخلف هو عجز الانسان المتخلف عن رؤية ذاته. فثمة الهروب الى الوراء حيث العصر الذهبي أو الى الأمام كما عند الاحزاب الشيوعية في أيام ستالين وبعده مباشرة بانتظار المجتمع الشيوعي حيث لكل انسان بحسب حاجاته ولكل انسان بحسب طاقاته.