تطل خيوط الشمس الذهبية لتمتزج مع خيوط غزل بيضاء ونايلون ملونة. تلمع إبرة سميكة طويلة المنقاد بين أصابع ماهرة لرجل سبعيني فعل الزمن أعاجيبه في تجاعيد بشرته السمراء وخدودها ونتوءاتها، وهي تحكي أسرار مهنة لا تزال تسرد حكاية من تاريخ شعوب البحر المتوسط. إنها مهنة صناعة شباك الصيد، التي يعكس حرص سكان هذه المناطق عليها، على رغم بدائيتها، مدى الإخلاص والعشق بين المدينة وصياديها ومراكبها. عشق يعود إلى أكثر من 7000 سنة، منذ أيام الفراعنة الأوائل الذين صنعوا شباك الصيد من ألياف النخيل وخيوط الكتان، ونقلوا هذا الفن إلى شعوب المتوسط، الذين ما زالوا يحافظون على صناعة الشباك يدوياً، ويعدّونها جزءاً من تراثهم الثقافي. ووجدت الشبكة التي يلقيها الصياد بمفرده في الماء في كل العصور بالطريقة ذاتها التي تستعمل بها الآن. وعلى رغم التطور اللافت في أدوات الصيد، يصرّ عدد غير قليل من السكندريين على صناعة شباك الصيد يدوياً لئلا تندثر هذه المهنة، فقرب سور الأنفوشي في جوار حلقة السمك في المدينة الساحلية، يجلس السبعيني صابر سردينة، أحد شيوخ المهنة، وقد حفرت تجاعيد الزمن على وجهه البشوش سنوات من الإخلاص والعشق لمهنة ورثها عن أجداده. يقول:"أعمل في صناعة الشباك منذ ستين سنة، وسافرت إلى مدن كثيرة على البحر المتوسط وصنعت آلاف شباك الصيد، وهو فن يحتاج إلى دقة وذكاء وإبداع". يستخدم سردينة ملقطاً، وهو خشبة في حجم قلم الرصاص، يشقها من أطرافها ويلف حولها الغزل الذي يلقطه بالمنقاد لصنع مربعات من خيوط الحرير أو النايلون تنسج مع بعضها في شكل هندسي. ثم تثبت الشبكة في نهايتها بحبل من الشعر السميك مع كرات من الرصاص الصلب بغية تثقيلها الشبكة. وتختلف شباك الصيد من مكان إلى آخر، وفق المدى الذي تلقى فيه الشبكة، ووفق نوع سرب السمك المقصود صيده، فهناك أسماك قوية وسريعة، وأخرى شرسة بأسنان حادة، فضلاً عن أسماك ذكية تحتاج إلى الحيلة لاصطيادها. وعن الشباك في مصر يقول:"منها شبكة الطرح والتحويطة، وتستخدم في صيد السمك البوري وأبو منئار والسلطان إبراهيم، والشنشيلة التي تعد أغلى أنواع الشباك، والتي تصنع من خيوط الحرير بدلاً من النايلون، وتكون خيوطها سميكة وتصبغ باللون البني كي تتحمل ملوحة البحر وتقاوم الحجارة في قاع البحر وتكون"عيونها"ضيقة، وتستخدم هذه النوعية في صيد الجمبري والسوبيا". ويوضح سردينة أن الشباك أصبحت تصنع آلياً، وهي مستوردة، يضاف إليها الفلين والرصاص بالطريقة السابقة ذاتها. ثم يأخذ الصياد الشبكة إلى البحر، يرميها فيه ولا يعاني عند سحبها، لأنها أصبحت تسحب أيضاً عن طريق الآلة. على رغم انتشار تلك الشباك، يصرّ سردينة على حفظ المهنة، إذ"لا بد أن يحمل أحد أبنائنا أسرارها ... كي يبلغها للأجيال المقبلة".