غالباً ما لا تنفصل سِيَر الأفراد عن سِيَر أوطانهم. ومن المستطاع القول إن الهجرة الواسعة للباحثين والعلماء العرب إلى الغرب، تؤشر إلى ضعف اهتمام بلدانهم بالعلوم والبحوث، ما يعني غياب الدافع لديها للحفاظ على ما نطلق عليه"الأدمغة". بلداننا طاردة، والآخر، أياً ما كان عرقه ولونه، يفتح ذراعيه واسعاً للترحيب بها، ويؤمّن لها وسائل ضرورية لإبراز طاقاتها الدفينة. وليس من شك في المساهمة الواسعة لهؤلاء العلماء والباحثين المنتشرين في بقاع الأرض في الإنتاج العلمي العالمي. وفتح حصول العالِم الأميركي- المصري أحمد زويل على جائزة نوبل في الكيمياء العام 1999 الأعين على وجود أقران عرب بارزين يعملون في العلوم الغربية المتطورة، بمجالاتها كافة. أخذ الباحث اللبناني الزميل علي حويلي وهو مقيم في كندا على عاتقه عناء التأريخ لأبرز علمائنا في كندا والولايات المتحدة. وسبق لحويلي أن أرّخ ل"جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية"للحصول على شهادة الماجستير، وكتب في رسالة الدكتوراه عن تاريخ بيروت الثقافي من القرن التاسع عشر وحتى الحرب الكونية الأولى. ولاحظ حويلي أن قارة أميركا الشمالية تستأثر بقرابة 60% من الأدمغة العربية المُهاجِرة بسبب كثرة الجامعات المتخصصة والحوافز المادية المُغرية والمناخات الملائمة للدرس والبحث. ووضع عن هذه الأدمغة كتاب"العلماء العرب في أميركا وكندا: إنجازات وإخفاقات". وصدر هذا الكتاب في بيروت عام2013، عن"منتدى المعارف". وجاء في 303 صفحات من القطع الوسط، مع مقدّمة بقلم المفكر اللبناني د. مسعود ضاهر. خريطة مُضمَرة لم يشأ الزميل حويلي أن يكون كتابه مجرد تأريخ أحداث، بل أراده تاريخاً اجتماعياً لمساقط رؤوس العلماء، والمخاضات التي أوصلتهم إلى تلك الأصقاع النائية والباردة، ما جعل الكتاب خريطة مضمرة عن البحوث العلمية واتجاهاتها عالمياً. ويعطي الكتاب نماذج من الرعيل الأول الذي واجه كثيراً من الصعوبات المادية والمعنوية ونجح في تخطيها. يبرز مثلاً إدوار صهيون ذو الأصول اللبنانية وُلِدَ في أميركا عام 1946 الذي يعمل في الفيزياء النظرية والفلكيّة. وينقل عنه توقعات كارثية منها أن الشمس ستتغير في شكل جذري عندما تستنفد من وقودها، فتُصبح نجماً أحمر عظيماً، وحينها تنتهي الأرض وتتبخر. وينقل عن صهيون دعوته العرب، أصحاب الماضي المشرق في علم الفلك الى امتلاك مراصد كونية عملاقة. ويتناول الجزائر، إلياس زرهوني ولد في قرية ندرومة العام 1951، وهو صاحب نظرية في الطب الحيوي، ويعد أول من أسس منظومة طبية تعتمد على تطوير الطب الوقائي. يبرز في الكتاب أيضاً إيلي شمعة، وهو مصري طوّر حاويات نقل الهيدروجين السائل في كندا، ويعمل على مشروعات عربية في مجال الزراعة في مصر والأردن والكويت والإمارات. ويهتم مواطنه بهاء صالح بالهندسة الكهربائية-فرع الليزر، وهو معروف أميركياً بإنجازاته في تكنولوجيا ال"فوتون"Photon وهو أصغر وحدة لقياس الضوء. ووضع كتباً تشمل"الضوئيات الإحصائية"Statistical Optics 1978، و"أساسيات علم الفوتونات"1991، الذي يعتبر من الكتُب المرجعية في هذا العلم. يعرّج الكتاب على شارل عشي، عالِم الفضاء اللبناني المشهور في"الوكالة الأميركية للفضاء والطيران""ناسا"، وهو مسؤول عن برامج المركبات الفضائية الآلية روبوتات الفضاء. ويورد أن عشي حصل على جوائز كثيرة ووضع 300 بحث ودراسة علمية، أكثرها في التصوير بالرادار، كما ألّف ثلاثة كتب عن نظام الاستشعار من بعد. ويُظهِر الكتاب علي نايفة، وهو أردني عمل في علوم الرياضيات التطبيقية، وتلك ذات الصلة ب"نظرية الفوضى"Chaos Theory التي تدرس حركة الأجسام العشوائية. ويُلاحِظ أن نايفة غزير الإنتاج العلمي، ويملك 434 بحثاً في الهندسة والميكانيكا والفيزياء، كما سجّل بين عامي 2003 و2010 ستة اختراعات في الديناميكا غير المنتظمة. ويتناول الكتاب العالِم المصري فاروق الباز، وهو اختصاصي في جيولوجيا، مشهود له بمساهماته في برامج غزو القمر، كما يملك قرابة 200 ورقة علمية، و32 جائزة علمية. الجيل الثاني: الشركات والمرأة وفق الكتاب عينه، يبدو الجيل الثاني من العلماء العرب أكثر حظاً من سابقه، بمعنى أنه نجح في الحصول على منح تعليمية، كما انخرط في تأسيس شركات ذات تمويل حكومي. ويبرز الكتاب من هؤلاء أحمد الطيبي، الفلسطيني-الكندي ولد في لبنان 1948، اهتم بالوراثة الطبية والتشوهات، واكتشف 40 خللاً في الجينات تتصل بتشوهّات جسدية ونفسية واختلالات في السلوك والتصرف. ويربط الطيبي بين الاختلالات الجينية عند العرب وزواج الأقارب، وهو أمر ثبّته في كتابه"أمراض الوراثة عند العرب". ونال الطيبي مجموعة من الجوائز التقديرية. ويعرض أيضاً لمسيرة الليبي أحمد المقرمِد ولد في طرابلس الغرب 1954، وله مساهمات كبيرة في المعلوماتية. ووضع المقرمِد برنامجاً للتدقيق في جودة المعلومات والبيانات الآتية من مصادر متنوعة معلوماتياً، واهتم كذلك بموضوعات الحكومة الإلكترونية، ويحاول حاضراً أن ينقل خبرته إلى بعض الدول العربية. يعتبر اللبناني، إدغار شويري ولد في طرابلس 1961، أحد أبرز العاملين في تطوير مركبات الفضاء في وكالة"ناسا". وطوّر نظاماً رقمياً للصوت الثلاثي الأبعاد من وحي صواريخ الفضاء. ويبيّن الكتاب أن أمين سلماني، وهو كندي من أصل مغربي، اتّجه إلى علوم الهندسة الوراثية ونجح في إنتاج غضروف طبيعي في المختبر. ويشير إلى أن الجزائري حبّة بلقاسم ولد في 1957 يعمل في مجال التكنولوجيا الرقمية في واشنطن وطوكيو، ويملك براءات اختراع كثيرة، منها 115 في أميركا و190 خارجها. ويتناول الكتاب المرأة العربية العلمية في المهجر الأميركي، ويلاحظ أنها تقف على قدم المساواة مع الذكور، إذ نافست العلميات العربيات وتفوقن في البحث العلمي. يبرز بينهن اللبنانية جون نصر الله التي اهتمت بعالم النبات والإخصاب الذاتي، ونشرت بحوثها في مجلتي العلوم والطبيعة. وتظهر السورية شادية رفاعي، عالمة الفيزياء التي كرّست أعمالها لفيزياء الشمس، كما نشرت ما يزيد على مئة ورقة علمية. ويلاحظ أن المصرية مها عاشور مواليد الإسكندرية العام 1944 تخصّصت في فيزياء الفلك، ولفتت الانتباه إلى نظرية الفوضى في الفيزياء المعاصرة وقدرتها على تفسير ظواهر يصعب التنبؤ كظاهرة"الشفق القطبي". وساهمت عاشور في نقل المعرفة العلمية إلى بعض الدول العربية. ويشير الكتاب إلى أن السودانية وداد المحبوب التي درست الفيزياء وعلوم الفضاء، وعملت في إطار وكالة"ناسا"في الفيزياء التطبيقية واستكشاف بيئة الفضاء. لم ينس حويلي الشبكات العلمية العربية في بلاد الاغتراب، ومنها:"شبكة العلماء والتكنولوجيين العرب في الخارج""ألستا"Alsta و"الجمعية العلمية التونسية"، و"جمعية العلماء الجزائريين". ويُحصي الكاتب شبكات تواصل عربية أبرزها:"الأكاديمية اللبنانية للعلوم"في باريس 2007، و"مؤسسة أصدقاء الأكاديمية"التي انطلقت من أميركا، و"الأكاديمية المصرية"و"المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا"و"مدينة الملك عبد الله الاقتصادية". إذا بدت هجرة العقول العربية كسباً للغرب، فإنها لم تكن خسارة صافية للعرب. ويرى حويلي، اقتداءً بالتجربة الهندية، أن نهضة العرب تبدأ بعودة العلماء، وأنه في المدى المنظور يجب العمل على استقطابهم من خلال المؤسسات العلمية والجامعات القادرة على تأمين الشروط المادية والمعنوية لهم للبحث والابتكار. * أستاذ الإبستيمولوجيا في الجامعة اللبنانية