على رغم المشاركة المبكرة، المندفعة والمكشوفة، الإعلامية والسياسية والأمنية والتقنية، ل"حزب الله"في قمع الثورة السورية، إلا أن المشاركة العسكرية تدرجت من الخجولة والمتنكَر لها، إلى الصريحة والواسعة في دمشق والقصير تحديداً. وإذ كان الاعتداء الإسرائيلي على مواقع عسكرية للنظام السوري في دمشق قد أعطى بعض التبرير لحزب رُسم، على غير وجه حق، أنه"مقاومة إسرائيل"، إلا أنه كان تبريراً باهتاً رُصف بتسرع مع خلطة من الحجج الطائفية في محاكاة لوعي جمهوره الوحيد المتبقي بعد انتصاره للنظام السوري. وهو ما يشبه، بشكل يبعث -لبرهة- على الحيرة، فعلة النظام السوري حينما أهمل مخاطبة الشعب السوري وكرر دون ملل كلاماً يحاكي -وينمي- الهواجس الطائفية للطائفة الوظيفية عنده وحينما حاول كل منهما العودة إلى ما اعتاده من خطاب عام، اكتشفنا أنه فقد الكثير من صدقيته، وقدرته على الإقناع. وفي الحالتين، نحن أمام مؤسستين سلطويتين تعكسان في سلوكهما شعوراً عميقاً بالعزلة والأقلوية، حتى أمام الجماعتين اللتين تورِطانهما في صراع عنيف مع شعب يطالب بالحرية، في الوقت الذي تعلمان أنه كان من الممكن اختيار أسلوب آخر أقل كلفة للجميع إلا لهما. وجذر كل ذلك هو علمهما أنهما يدافعان عن طغمة حاكمة ما كان لتغييرها أن يعني بنفسه ضرراً وجودياً لمحور أو دول أو مقاومات كما أوهما ناسهما، إنما تغير في المعادلة السياسية ستلحقه إمكانيات مفتوحة لإعادة رسم خريطة التحالفات، تحديداً أن القضية التي يدعيها"حزب الله"تمتلك إجماعاً شعبياً سورياً. إلا أن قضية أخرى ل"حزب الله"أبعد غوراً، وهو أكثر تماثلاً معها بما لا يقارن، مهددة فعلاً. فولاية الفقيه تجد نفسها في مأزق في بلادها حيث يتحداها، قليلاً، رئيس من صنائعها، وجمهور متنوع المشارب أصبح يجدها معيقاً لتقدم بلاده"بعضهم لاعتبار فسادها وآخرون لرجعيتها، وأغلبية لمواجهتها المكلفة مع الغرب دونما داعٍ من وجهة نظرهم. وهؤلاء يتابعون الموجة الديموقراطية في المنطقة باهتمام، ويعلمون أنهم شاركوا في تأسيس وعيها في حراكهم السياسي خلال السنوات الماضية، وذروته ثورتهم الخضراء"وبالنسبة اليهم سيكون انتصار الثورة السورية محطة حاسمة في انتقال الربيع لبلادهم. ويمكن تبرير هذا التصور بما هو معلوم عن نفوذ الملالي في سورية وعبرها في مناطق أخرى، إن لتسهيل السلطة السورية وصول السلاح ل"حزب الله"، أو لتحويلها أتباعها في الساحة الفلسطينية لأعوان لإيران"وكذلك بوجود التشابه بين النظامين في سورية وإيران، إن من حيث هيمنة أجهزة الأمن وفسادها أو مبررات حكمها السياسية. ولكل ذلك، وفوقه خوف الملالي من الضرر المعنوي لهزيمتهم في حماية ما أعلنوه محافظة إيرانية، لا يجد"حزب الله"أمامه من سبيل إلا التورط في معركة الدفاع عن طاغية دمشق، حتى لو أدى ذلك إلى خسارته كل الرصيد الشعبي في عموم المنطقة، وزج لبنان في أتون بركان لا أحد يعرف متى يمكن أن يهدأ. إلا أن اقتحام المخاطر ليس هواية للحزب، فمن المؤكَد أنه كان سيختار البقاء خارج المشاركة العسكرية الواسعة، لولا الضعف الظاهر لقوة الاستبداد الأسدي وهو الخط الأحمر بالنسبة إليه، بالإضافة للتدخل العسكري الخارجي، الذي يستدعي دفع الاحتياط الاستراتيجي الإيراني الذي يشكل الحزب قوة ضاربة فيه. ففقط حينما بدا أن استمرار الحرب بالوكالة غير ممكن، وأن قوة الطاغية في تراجع، وأن عملية استنزافه وصلت إلى حدود الخطر، أصبح لزاماً على قيادته حسم أمرها وإدخال قواتها في الصراع على الأرض. بخاصة وأنها، ومن يسيرها، تأمل أبن حدوث تغيير طارئ على الأرض قد يساعد الروس بمطالبهم بإدخال الملالي طرفاً في المؤتمر الدولي المزمع عقده قريباً، لتحمي مصالحها في تسوية سياسية وتقدمه نصراً أمام شعبها. كما أن فشل جيش الطاغية، وشبيحته، في الحجز بين القوى السنية في الشمال اللبناني والجيش الحر، وتأمين طريق دمشق الساحل، يعد عجزاً يستدعي محاولة ترميمه بقوة الحزب. وإذ تشكل مشاركة"حزب الله"في قهر الشعب السوري نهاية أسطورة المقاومة والممانعة، ونصرة المظلوم، في عين غالبية شعوب المنطقة، يختار الحزب للتعامل معها سلوكه المعتمد داخلياً منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فيدعم صورته الفاقدة الشرعية بالإجبار والإكراه. على أساس أنه يمكن للمنتصر، الذي يتكئ على دولة ذات نزعة إمبراطورية شديدة البذخ مع أحزاب ومريدين، ومنهم مثقفون وناشطون، أن يفرض الرواية التي يريدها. هكذا يظهر أنه لا يمكن لمؤسسة من مؤسسات نظم القهر أن تنأى بنفسها عن ثقافتهم وسلوكهم ومعاركهم، ويصبح لزاماً على قوى التحرر الكف عن ما اعتادته من مراعاة للحزب بادعاء أنه رغم كل مساوئه يبقى حزب مقاومة وتحرير، فقد أصبح حزب قهر واحتلال"وليس من التنبؤ القول بأنه على طريقة معالجتها لعلاقتها معه، ومع سلطة الاستبداد السوري، سيتحدد مصير أفكارها في المدى المتوسط، وليس فقط موقف مجتمعاتها منها. * كاتب فلسطيني/ سوري