طوت بريطانيا صفحة من تاريخها أمس، بوفاة رئيسة وزرائها السابقة مارغريت ثاتشر 87 سنة، اثر إصابتها بجلطة دماغية. حكمت ثاتشر 11 سنة، وغيّرت بريطانيا، منتصرة في حرب نشبت على بعد آلاف الكيلومترات عن بلادها، كما ساهمت في حقبة دولية شهدت انهيار الاتحاد السوفياتي، وأقنعت الرئيس رونالد ريغان بشن حرب تحرير الكويت في عملية"عاصفة الصحراء". ثاتشر ابنة بقال، أطلقت عليها الصحافة السوفياتية لقب"المرأة الحديد"، وأثارت شخصيتها انقساماً شديداً، لكنها فرضت سيطرة مطلقة خلال سنوات حكمها، وتركت لدى مغادرتها"10 داونينغ ستريت"، بلداً مختلفاً وأكثر ازدهاراً. ويعتبر معجبون بثاتشر أنها منقذ بريطانيا من الخراب، وضعت أسس نهضة اقتصادية استثنائية. لكن منتقديها يرونها مجرد طاغية برزت في زمن جشع، أخرج الضعيف إلى الشارع وأتاح للغني زيادة ثروته. وأعلن الناطق باسم ثاتشر، اللورد تيم بيل، وفاتها"في سلام بعد جلطة دماغية"، مضيفاً:"أعتقد بأنها ستُذكر بوصفها أحد أعظم رؤساء وزراء البلاد". وأبدى ثقته بأنها"ستُذكر في سياق عظماء آخرين، مثل ونستون تشرشل، إذ أنجزت فارقاً حقيقياً في أسلوب حياتنا". رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون قطع جولة أوروبية، واعتبر أن بلاده"فقدت قائدة عظيمة ورئيسة وزراء عظيمة وبريطانية عظيمة"، فيما أبدت الملكة إليزابيث الثانية"حزناً"، وأعلنت الحكومة البريطانية أنها لن تقيم جنازة دولة لثاتشر، استجابة لرغبة أسرتها. وستقام الجنازة في كاتدرائية سان بول، في موعد لم يُحدد بعد، يتبعها حرق الجثمان"في مراسم خاصة". واعتبر الرئيس باراك أوباما ثاتشر"صديقة حقيقية"للولايات المتحدة، فيما أشاد الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف ب"شخصية سياسية عظيمة"، معتبراً أن"التاريخ سيخلّد اسمها". ووصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بأنها"سيدة مبادئ وتصميم وقناعة وقوة، ألهمت جيلاً من القادة السياسيين". أما الزعيم السابق للجيش الجمهوري الإرلندي جيري أدامز فاعتبر أنها سبّبت"معاناة ضخمة"في إرلندا. المفارقة أن ثاتشر رجّحت لدى توليها وزارة التربية عام 1974، ألا تشهد في حياتها تولي امرأة رئاسة حزب أو حكومة. لكنها أصبحت منذ عام 1979، المرأة الوحيدة التي تولت رئاسة الوزراء في بريطانيا، وقادت حزب المحافظين للفوز في ثلاثة انتخابات نيابية، وشغلت المنصب بين 1979 و1990. مثل صديقها وحليفها، ريغان، آمنت ثاتشر بتحرير الاقتصاد، بدل الاعتماد على حكومة مركزية، كما واجهت تحفظ قادة الجيش، ومعارضة ريغان، واستعادت جزر"فوكلاند"بعدما اجتاحتها الأرجنتين عام 1982. وكتبت في مذكراتها عن تلك المرحلة"حين تخوض حرباً، لا يمكنك السماح للصعوبات بالسيطرة على تفكيرك... عليك التحلي بإرادة من حديد، للتغلب عليها". ومهّد نصر حرب"فوكلاند"لمعركة مع نقابات عمال المناجم التي بدأت في آذار مارس 1984، إضراباً دام 51 أسبوعاً، احتجاجاً على خطط الحكومة لإغلاق مناجم. واشتبك هؤلاء مع الشرطة، لكنهم لم يهزموا ثاتشر، فعادوا إلى العمل من دون نيل أي تنازل. نجت عام 1984 من محاولة اغتيال نفذها"الجيش الجمهوري الإرلندي"، إذ فجّر قنبلة في فندقها في برايتون، خلال مؤتمر لحزب المحافظين، ما أدى إلى مقتل شخصيات حكومية. لكن ثاتشر أصرّت على إكمال المؤتمر، قائلة"لنعد إلى عملنا المعتاد". حققت"المرأة الحديد"فوزاً ساحقاً جديداً، في انتخابات 1987، لكن ثقتها الزائدة بنفسها ورفضها الاستماع إلى نصائح وزرائها الذين حذروا من ضريبة محلية مثيرة للجدل، عُرفت باسم"بول تاكس"، أثارا احتجاجات صاخبة في لندن ومدن أخرى، تخللها أسوأ شغب خلال أكثر من قرن. وإذ فقدت مساندة حزبها، استقالت بعينين دامعتين، في تشرين الثاني نوفمبر 1990، قائلة:"نغادر داونينغ ستريت للمرة الأخيرة، بعد 11 سنة ونصف سنة كانت رائعة، ونحن سعداء جداً لأننا تركنا المملكة المتحدة في وضع جيد، وأفضل بكثير مما كانت عليه لدى تسلّمنا الحكم". ثاتشر انتهجت سياسة محافظة اجتماعياً وليبرالية اقتصادياً، عُرفت باسم"الثاتشرية"، وخصصت الشركات الحكومية وخفضت الضرائب والنفقات العامة وحاربت النقابات. لكن عدد العاطلين من العمل تعدى الثلاثة ملايين. وإذ رفضت دوماً التسويات، قالت عبارة شهيرة"أنا مع الإجماع... حول ما أريده". ثاتشر التي رأست حزب المحافظين عام 1975، وُلدت عام 1925 ودرست المحاماة، وتزوجت عام 1951 رجل الأعمال دنيس ثاتشر الذي انجبت منه التوأم مارك وكارول.