احتدّ السجال في الآونة الأخيرة، بين الروائيين -بخاصة الشباب، الذين يزداد عددهم وتتكاثر إصداراتهم في شكل ملحوظ - وبين النقاد، على قلتهم وضعف مردودهم النقدي. وقد يعود هذا الضعف إلى ظروف موضوعية لها علاقة بإشكالات الحالة الثقافية المعقدة في الجزائر، حيث لا دوريات ولا منابر أدبية جادة تقترح التفاعل الخلاق والمرجو بين الناقد والنصوص التي تنشر سنوياً. وهي تعرف تزايداً مستمراً في الفترة الأخيرة، بحيث بلغ عدد الروايات التي صدرت في بداية الموسم فقط ثلاثاً وعشرين، معظمها لأسماء جديدة تقتحم المشهد الأدبي وتحلم أن يلقى عليها الضوء من خلال المتابعات النقدية. طُرح هذا السجال في ظروف متأزمة على مستوى الواقع الأدبي، الذي بقدر ما يزخر بالأصوات والنصوص، يبقى يُعاني تكلساً وهشاشة على مستوى البنية التحتية والمادية غياب الإعلام الثقافي، والفضاءات التي تسمح باللقاء والحوار والنقاش، عزلة الكِتاب الأدبي... التي لا تسعفه لكي يصبح ذلك الفاعل الأساسي في هذه الواقع الثقافي البائس. برزت قوة الرواية في السنوات الأخيرة على مستوى الكمّ والنوع وباللغتين العربية والفرنسية، مكتسحة بقيّة الأجناس الأدبية الأخرى التي كانت تعرف ازدهاراً ملحوظاً كالشعر مثلاً، أو حتى القصة القصيرة... ولعلّ السبب الأساس هو أن الناشر أصبح يتردد في المجازفة بطباعة الأعمال التي لا يُقبِل عليها القراء بكثرة، بالإضافة إلى سوء الدعم من وزارة الثقافة حِيال احتفاليات الجزائر عاصمة للثقافة العربية 2007، بحيث طبعت المئات من الدواوين الشعرية، من دون أن تحدث أيَّ أثر إيجابي في فنّ الشعر، لا عبر طُرُق تسويقه ولا حتى تعميم قراءته، بل كان لذلك كلّه مفعول عكسي أدّى في نهاية المطاف إلى تكديس هذه الدواوين في المخازن، وإلى أن يفقد إقبال حتى مُنتجيه عليه. وثمّة من يُرجع السبب إلى أنّ الجزائر نفسها اشتهرت بالرواية أكثر من الشعر، وقدّمت إلى العالم العربي والفرنكوفوني روائيين كباراً، وهذا ما لم يُقدّمه الشعر. ويبدو أنّ هذا التقليد ظلّ مستمراً، وإن شهدت القصة القصيرة ازدهاراً في الفترة التي كانت توليها الصحف اليومية أهمية كبرى، نظراً إلى تراجع حركة النشر التي كانت تحتكرها -في معظم الأحيان- مؤسسات النشر التابعة للدولة. ولهذا السبب، كان أقصى أحلام كتّاب القصة القصيرة من جيل الشباب نشْرَ قصصهم في صفحات الجرائد، من غير أن يحلموا بالتجرؤ على الكتابة الروائية، التي بقيت تحتكرها الأجيال القديمة حتى نهاية التسعينات. انطلق السجال الطويل حول الرواية الجديدة والنقد بعدما نشرت جريدة يومية - لا تولي عادة اهتماماً كبيراً بالأدب - حواراً مع ناقد وأستاذ جامعي وروائي، تعرّض فيه لضعف النصوص الروائية الشابة وقلّة زادها وخبرتها الفنية، وعدَّدَ أخطائها ومثالبها، الأمر الذي جعله محطَّ هجوم شرس في صفحات الموقع الاجتماعي"فايسبوك". وهكذا، راح الكتّاب الشباب يتهمونه بالعدائية والمؤامرة، إلى أن بلغت حرارة السجال أعلى مستوياتها عندما انتقلت من محاولة كل طرف إقناع الخصم بوجهة نظره إلى فوضى نقدية، وحرب كلامية تشبه حرب داحس والغبراء. صراع الأجيال لم يعترف الروائي الراحل الطاهر وطار بالجيل السبعيني الشاب الذي جاء بعده، وعدّه دائماً جيلاً عديم الموهبة والقدرة على الكتابة، وظلّ ينظر اليهم كمتطفلين على الرواية، برغم أنّ ذاك الجيل قدم له فروض الولاء، وانبرى يدافع عنه كقيمة أدبية كبيرة، وخصوصاً عندما انتقد إلياس خوري روايته"الحوات والقصر". وبدورهم، لم يعترف كتّاب -أو من تبقّى من كتّاب- الجيل السبعيني، بمن أتى بعدهم إلا في حدود المجاملات السطحية على مستوى الإعلام والحوارات، من دون أن يهتموا نقدياً وأدبياً بتلك النصوص. وربما ورث الجيل السبعيني من الطاهر وطار نفسِه الأسلوبَ، أو بالأحرى المخاوف ذاتها، بمعنى أنّهم كانوا يعتقدون أنّ هجومهم على من يأتي بعدهم يُساعدهم في الحفاظ على قدسية مكانتهم. إلا أن هذا السياق الأدبي تغيّر مع نهاية الثمانينات وحتى نهاية التسعينات، عندما ظهرت نصوص جديدة ومتحررة من سلطة أب يحميها أو يكرسها أو يضعها في خدمة سلطته المركزية. من هنا، لم يعد ينفع التسلط الذي مارسه الروائي وطار، ليس فقط كرائد للرواية ولكن من موقعه السياسي والسلطوي، بحيث كان يُحسب له ألف حساب، وكان يثير مخاوف النقاد والكتّاب على السواء، هم الذين كانت تجمعه بهم علاقة سيئة على الدوام، وعندما أسس الجاحظية راهن على الأصوات الشابة في الشعر والقصة، وترك ما بقي من الجيل السبعيني بعيداً من دائرته الثقافية. لم تتأسس الآداب في الجزائر على التحاور بين الأجيال، ولا على الصراع في الوقت عينه، بل على اللاعلاقة،وعلى أفق قطيعة دائمة. وكلّ من يدخل مجال الكتابة الأدبية، كان يأتي بشعور جديد بأنه لا ينتمي إلى سابقه، وهو ما عبّر عنه الناقد الجزائري أحمد يوسف في حقل الشعر أحسنَ تعبير عبر مصطلح"يُتْم النص". لكنّ الحرب بين الأجيال كانت تتمثّل من خلال مواقع في المشهد الثقافي، وبحسب موقع كل طرف في هذا المشهد، فالسبعينيون تكرسوا واحتلوا الجامعة والتعليم وبعض المديريات في وزارة الثقافة، وهذا ما كان يمنحهم حضوراً أقوى من حيث القدرة على الاستئثار بالمكاسب والغنائم، وهم يستفيدون منها حتى الآن. وبرغم كساد أدبهم -الذي عكسته مرحلة الاشتراكية-، إلا أنهم تمكنوا من إعادة طبع أعمالهم الكاملة تقريباً، بدعم من وزارة الثقافة في احتفالية الجزائر، بعدما استفادوا بشكل أو بآخر من حضورهم القوي والمؤثر. عانى الإبداع الجزائري كثيراً من غياب النقد منذ بداية تبلور أدب وطني، فلم تظهر أسماء نقدية كبيرة، وإن بقي اسم الراحل محمد مصايف هو العلامة المميزة في تلك الفترة. وبرغم أنّ نقده يميل إلى الإجراءات التقليدية ويقترب من الانطباعات، إلا أنه كان الأكثر بروزاً في السنوات الأول لتشكّل الأدب الجزائري المُعرّب، ولم تعطِ المرحلة الاشتراكية، التي قدمت"أدباً دعائياً"نقداً مهماً، وبقي الأمر على حاله حتى ظهور المناهج الحديثة في الجامعة، والتي بدلاً من أن تقرأ النصوص التي تتزامن معها في السياق، عادت إلى النصوص الأولى وبقيت تشتغل عليها لدرجة التكرار والملل، ولم تستطع أن تضيف هي الأخرى أيَّ جديد يذكر، فظلَّ النقد الأدبي هو الحلقة الأضعف، إنْ على مستوى الدراسات المنشورة أو في الصحف المقروءة، وهذا ما أدّى إلى انتشار القراءات الصحافية العابرة، التي تكتفي بتلخيص العمل وإن كانت قيمته لا تخرج من إطار الذم أو المدح. القطيعة لم تستطع الدراسات النقدية الجامعية، التي تكتفي عادة بدراسة نص روائي واحد، أن تسد فراغ الرؤية التي يعانيها الأدب الجزائري. وتكاد تختفي الدراسات البانورامية والبيبليوغرافية، إذ لم يتم حتى الآن إحصاء عدد النصوص التي تصدر سنوياً. وبالتالي تبدو القطيعة كاملة ومكتملة بين واقع الكتابة التي تشعر بعزلتها وعدم إنصافها ودرس النقد الجامعي الذي ينغلق شيئاً فشيئاً ضمن حدوده الجامعية، متذرعاً بعمليته وأكاديميته الجافة. أما النقد الذي يُمارس عادة ضمن الملتقيات الأدبية، فهو يمارس في الغالب على الأسماء المكرسة. وثمّة من يشتكي من هيمنة اسم واحد أحياناً على ملتقيات عدة تكاد تكون مخصصة لهذا الكاتب بذاته، ومن هنا ضاعت الثقة وانسدّ باب الحوار، ولعلّ هذا ما أثار في الآونة الأخيرة موجة من النقد للباحثين والنقاد أنفسهم من الروائيين الشباب، وبخاصة الذين عبروا عن سخطهم في المواقع الاجتماعية لانعدام قنوات أخرى توصل صوتهم واحتجاجهم ذاك. وعلى رغم كلّ السجال الساخن، الذي خرج عن أصول الحوار وذهب إلى تبادل التهم و"اللكمات"بين الأطراف المتخاصمين، إلا أن كثيرين يرون في ذلك بداية مواجهة تفتح في النهاية نافذة على هموم حقيقية يعيشها الأدب الجزائري، الذي يُكتب خارج سياق القراءة النقدية لكنه يؤسس لوجوده ضمن خريطة الكتابة، بقوة إصراره على الحضور الفردي المتميز. ولكن... يبقى النقد هو الحلقة المفقودة والسؤال الغائب والمحير.