لم يتشكل البرنامج النووي الإيراني في عهد الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تأسست عام 1980، وإنما يرجع إلى أواسط السبعينات من القرن الماضي عندما تم الاتفاق بين إيرانوالولاياتالمتحدة على التعاون النووي الذي أسفر عن تزويد إيران مفاعل طهران النووي الخاص بالأبحاث العلمية، وأقنعت واشنطن الحكومة الإيرانية آنذاك بضرورة امتلاك مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة الكهربائية، والاستفادة من هذه الطاقة للمعالجات الطبية والزراعية، حيث تكفّلت تدريب المختصين وإعطاء منح لدراسة الفيزياء النووية، كمقدمة لبناء مفاعلات في مناطق متعددة كان أبرزها مفاعل بوشهر النووي الذي لم يستكمل العمل به بسبب الحرب العراقية - الإيرانية"1980 - 1988". لكن القيادة الإيرانية الجديدة رأت ضرورة إعادة النظر في البرنامج النووي بعدما كانت تتصور في بداية الثورة أن المضي فيه تبديد للمال ومحاولة لربط إيران بالهيمنة الغربية، لذلك وضعت تصوراً جديداً يستند إلى قاعدة"امتلاك التقنية النووية الكاملة"بما في ذلك تخصيب اليورانيوم وإنتاج الوقود النووي، بعدما أيقنت أن الاعتماد على الدول الغربية الكبرى في توريد الوقود أمر لا يمكن الركون إليه في ظل السياسة الإيرانية التي تريد أن تكون مستقلة عن الكتل الدولية. وعليه، فإن الولاياتالمتحدة التي اتفقت مع شاه إيران على دعم البرنامج النووي الإيراني، امتعضت من رغبة الجمهورية الإسلامية الجامحة لاستكمال هذا البرنامج ورأت فيه تهديداً للأمن الدولي ناهيك عن الأمن الإقليمي. ولا يوجد ما يدعو الولاياتالمتحدة لاتخاذ قرار بالوقوف أمام الطموحات الإيرانية النووية إلا في المتغير الذي حدث في السياسة الإيرانية حيال الوجود الإسرائيلي في المنطقة بعد عام 1979، إذ اتخدت الجمهورية الإسلامية موقفاً منحازاً للحق العربي الفلسطيني، ووضعت نفسها في الجانب المطالب بهذا الحق، بعدما أعلنت بوضوح وشفافية العمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الأراضيَ الفلسطينية وعدم القبول بأقل من زوال"الغدة السرطانية"من قلب العالم العربي والإسلامي. واللافت أن الدراسات والمواقف التي تناولت الملف النووي الإيراني أغفلت في معظمها العامل الإسرائيلي مركزة على تداعيات الملف على الأمن الإقليمي والنظام الرسمي العربي. القراءة الإيرانية للوجود الإسرائيلي في المنطقة أثّرت في شكل كبير في تطورات هذا الملف منذ عام 2001، بعدما أقدمت إيران على تشغيل منشأة ناتنز لتخصيب اليورانيوم وإنتاج الوقود النووي، واعتبرت إسرائيل هذه الخطوة تحدياً خطيراً وإخلالاً بموازين القوى، ليس لأن إيران تستطيع من خلال ذلك إنتاج السلاح النووي، وإنما بسبب حصول إيران على التقنية العلمية التي ترى فيها إسرائيل تهديداً لأمنها القومي، بمعنى آخر أن إسرائيل تستند في تعريفها لأمنها القومي إلى إبقاء حال"التفوق الإسرائيلي"في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية، حيث تضع الدول العربية والإسلامية في هذا الإطار سواء في الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا أو جنوب شرقي أسيا. تشير دراسات وبحوث عدة إلى الطموح الإيراني في المنطقة، وغني عن القول، فإن موضوع"الأمن القومي"كان ولا يزال الشغل الشاغل لمختلف النظم السياسية سواء تم تناوله باسم الدفاع أو السيادة أو المصلحة أو غيرها من المصطلحات، وعليه فهو يحظى بأولوية التفكير الاستراتيجي والعسكري والسياسي كونه محوراً للسياسة الخارجية لأي دولة أو مجموعة من الدول، فالسياسة الخارجية بصفتها السلوك الخارجي للدول يكون الأمن القومي أحد مرتكزاتها الرئيسة. وعلى ذلك كان من الطبيعي للجمهورية الإسلامية أن تضع مستلزمات الحفاظ على أمنها القومي. وعندما تريد اقتناء الطاقة النووية في منطقة تعيش حال التفوق الإسرائيلي، فعليها أن تعمل لصوغ منظومة أمنية تحافظ من خلالها على مكتسباتها وأمنها القومي. وخلال الحوارات والاجتماعات والمؤتمرات التي دخلت فيها مع الدول الغربية منذ عام 2001، كانت إيران تصر على ربط ملفها النووي مع المتغيرات السياسية والأمنية في المنطقة، ساعية إلى لعب دور مؤثر في أية ترتيبات أمنية أو سياسية، في الوقت الذي أدارت ملفها النووي من حيث الشكل والمضمون ما يحقق أهدافها التي لا تزال سائرة به في هذا الاتجاه. وتعتقد إيران أن منطقة الشرق الأوسط تخلو من منظومة أمنية وسياسية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأن الولاياتالمتحدة تسعى مع إسرائيل لإعادة صوغ هذه المنظومة الأمنية بما يخدم"الأمن الإسرائيلي"وذلك من خلال طرح مشروع"الشرق الأوسط الكبير"، والحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، وأخيراً ظاهرة"الربيع العربي"التي انطلقت عام 2011 في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. الخيارات المطروحة في ظل ما تشهد المنطقة من أزمات تبرز خيارات أمنية عدة ترتبط بالملف النووي الإيراني تساهم في الوضع الأمني: - الخيار الأول: التصعيد في حال فشل المساعي الديبلوماسية بما يؤدي إلى استخدام الخيار العسكري سواء من الجانب الإسرائيلي أو من خلال الجانب الأميركي، وهو خيار مستبعد في الوقت الراهن بناء على معطيات تتعلق بالوضع الإقليمي والدولي، والقدرات التي تمتلكها إيران في المجالين العسكري والسياسي، إضافة إلى الوضع العسكري والأمني الذي تعيشه إسرائيل في الوقت الراهن، والرغبة الأميركية في عدم الدخول في حال تصعيدية في منطقة الشرق الأوسط، أللهم إلا أن تذهب بعيداً في خيار المقاطعة الاقتصادية التي تهدف إلى إنهاك الاقتصاد الإيراني في إطار الحرب الناعمة، وفي إطار سياسة"الغموض البنّاء"التي أعلنت عنها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون. - الخيار الثاني: خيار سياسي تشجعه إيران لتحقيق هدفها في الحصول على"الدورة الكاملة للتقنية النووية"مقابل ضمانات تعطيها للأسرة الدولية بعدم الاتجاه نحو إنتاج السلاح النووي. - الخيار الثالث: تعليق البرنامج النووي الإيراني أو تعليق أجزاء منه كأنشطة التخصيب، مقابل امتيازات اقتصادية وسياسية وأمنية في المنطقة، وهو خيار مستبعد لعدم انسجامه مع قراءة إيران لأمنها القومي وللوضع الأمني في المنطقة. - الخيار الرابع: التعاون، سواء مع الدول الغربية أو الدول الإقليمية في إطار الرغبة بالمحافظة على البرنامج النووي وفق مساومات سياسية أو أمنية مع الدول الغربية أو دول الإقليم. إن تفعيل الجهد العربي والإقليمي نحو المطالبة بجعل منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي، وإيجاد أجواء دولية لممارسة المزيد من الضغوط على إسرائيل لتفكيك برنامجها النووي العسكري، وإزالة ترسانتها النووية، أمر في غاية الأهمية للمنطقة التي تعتبر شريان حياة العالم بما تمتلك من مصادر الطاقة، كما أن استخدام الخيارات السياسية والديبلوماسية لحل الملف النووي الإيراني، إضافة إلى خيارات التعاون والتنسيق الإقليمي من أفضل الخيارات المطروحة لرؤية شرق أوسط تنعم أجياله بحال من الرخاء والاستقرار بعد سنوات عجاف عاشت فيها على أزيز الطائرات، وحركة الدبابات ومسارات الصواريخ. في هذا المجال، تبرز أهمية الدعوة إلى وضع خريطة طريق عربية للتعاطي مع الملف النووي الإيراني تأخذ في الاعتبار سلمية هذا الملف من أجل التوصل مع المجتمع الدولي إلى حل عبر الطرق السياسية والديبلوماسية. وربما تشعر دول المنطقة بأن طرح مثل هذا المشروع قد يصطدم بالعقبة الإسرائيلية التي تملك فعلاً ترسانة من السلاح النووي. لكن السؤال: ألا يستحق مثل هذا الموضوع تكثيف الجهود من أجل البدء برسم"خريطة طريق نووية"للمنطقة؟