اعتبر قادة البلدات العربية البدوية في النقب جنوب إسرائيل، تظاهُرَ الآلاف من أبنائها الخميس الماضي ضد مشروع حكومي رسمي يقضي أساساً بنهب غالبية ما تبقى من أراضيهم، «الشرارةَ الأولى» في مواجهة الحرب الإسرائيلية المعلنة على «عرب النقب»، مؤكدين ان الخطوات الاحتجاجية لن تتوقف قبل الاعتراف الرسمي بعشرات القرى القائمة قبل قيام إسرائيل، وبملكية سكانها لها، ووجوب توفير الحكومة ما يستحقون من حقوق أسوة بسائر المواطنين. ولفت مراقبون إلى حقيقة أن التظاهرة هي الأكبر في تاريخ النقب الذي يقطنه 180 ألف عربي يملكون نحو مليون دونم، ما يؤشر إلى تماسك الأهالي في شأن مطلب الاعتراف بالقرى ورفضهم كل الإغراءات الحكومية لترحيلهم عن أراضيهم. وأشاروا إلى أن عموم العرب في الداخل باتوا يرون في نجاح المعركة في النقب من عدمه امتحاناً لبقائهم في أرضهم التي صودر نحو 98 في المئة منها منذ عام 1948. وتعتبر إسرائيل، بحكوماتها المتعاقبة، مشكلة «بدو النقب» إحدى أهم المشاكل المستوجبة معالجتها جذرياً لتفادي أن يصبح جنوب إسرائيل (والجليل أيضاً في الشمال) ذا غالبية عربية. ويرى أركان الدولة العبرية أن القضية «أيديولوجية وإستراتيجية» تتعلق بالمسألة الديموغرافية التي تؤرقهم. ويحمل رئيس حزب «إسرائيل بيتنا»، وزير الخارجية المتطرف أفيغدور ليبرمان، لواءَ محاربة الوجود العربي في الداخل تحت مسمّى «محاربة البناء غير المرخص» عند المواطنين العرب في الجليل والنقب والمثلث، ويرى فيه واحداً من أربعة تحديات رئيسة تواجه الصهيونية، على حد تعبيره. وأطلق ليبرمان في مناسبات كثيرة دعوته الحكومة الى الشروع في هدم عشرات آلاف المنازل العربية بداعي عدم حصولها على تراخيص بناء، متعمداً التهويل بغرض إظهار المشكلة على أنها «تمرد عربي ضد القانون الإسرائيلي». «مشروع بافر» وكانت الحكومة صادقت أخيراً على تقرير وضعته لجنة خاصة برئاسة البروفيسور برافر لمعالجة «مشكلة بدو النقب». وتم وضع المشروع من دون استشارة أصحاب الشأن، ما دفع بمؤسسات حقوقية إسرائيلية إلى الوقوف إلى جانب الأهالي في معركتهم القانونية والشعبية. ويعتبر «مشروع برافر» نسخة من خطط مماثلة تقريباً وضعت في السابق لكن تم إرجاء التصديق عليها خشية أن تتسبب في «انتفاضة اجتماعية واسعة لدى عرب النقب» تعكس غضب الأهالي على سياسة الحكومة التي تقوم على القوة والعنجهية في التعامل معهم. وتدعي الحكومة بأن «مشروع برافر» جاء ليخدم المواطنين البدو «ليقدم لهم كل الخدمات في التجمعات السكنية الجديدة»، لكن الأهالي يردّون بأن الغلاف الخارجي «جميل» إذ يتحدث عن «تحسين ظروف المعيشة»، إلا أن جوهره خطير، إذ يرمي إلى اقتلاعهم من أراضيهم، سواء بالترغيب (تعويض مالي بخس عن الأراضي التي يغادرونها) أو بالترهيب، مثل مصادرة قانونية للأراضي أو توسيع عمليات هدم المنازل بحجة البناء غير المرخص. وحيال السجال في شأن «أراض متنازع عليها» بحسب القاموس الإسرائيلي، تفتَّق ذهن اللجنة الحكومية عن تسوية تقضي ب «توطين» السكان في المدن البدوية القائمة وفي تجمعات جديدة على مساحة 100 ألف دونم في مقابل توقيعهم على التنازل عن نحو مليون دونم يملكونها حالياً، علماً أنهم كانوا يملكون مع إقامة الدولة العبرية أكثر من 11 مليون دونم، صودر 90 في المئة منها بموجب قوانين سنَّتها الكنيست الإسرائيلية بداية خمسينات القرن الماضي لنهب الأراضي العربية. «مشكلة مزمنة» ومنذ قيام إسرائيل، ترفض حكوماتها المتعاقبة الاعتراف بأكثر من 40 بلدة يقطنها اليوم نحو 90 ألف شخص، يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحياة، من خدمات صحية وتعليمية ومواصلات، وحتى عدم ربط القرى بشبكات المياه والكهرباء والطرق، بهدف تيئيس الأهالي وحملهم على الرحيل. وتحت الادعاء بأن الأراضي التي يقيم عليها سكان هذه القرى ليست ملكهم، رفضت السلطات الإسرائيلية شملها في المخطط الهيكلي وصنّفتها «غير قانونية». إلا أن الأهالي أثبتوا من خلال وثائق رسمية، أن غالبية أراضي هذه القرى مسجلة بملكيتهم، وعندها لجأت إسرائيل إلى ذريعة أن الأراضي زراعية، وأن القانون يحظر البناء عليها. وقبل ثلاثة عقود، سنت قانوناً إضافياً يقضي بعدم جواز منح أي نوع من الخدمات «للبيوت غير المرخصة»، وهي البيوت التي اضطر الأهالي إلى بنائها للتجاوب مع التكاثر الطبيعي بعد أن رفضت السلطات منحهم تراخيص البناء بداعي أن البلدات غير مشمولة في الخريطة الهيكلية للدولة. وتسقط هذه الذريعة إذ يتبين أن السلطات ذاتها أقامت خلال العقود السابقة على الأراضي «الزراعية» ذاتها عشرات المستوطنات العصرية في النقب، بعد أن تدخلت الهيئة التشريعية وحوّلت هذه الأراضي إلى إسكانية. خطط كثيرة ولا تعتبر خطة برافر جديدة إنما هي تتمة لخطط كثيرة أخرى وضعت لكن بقيت في الدرج لتحيّن الفرصة المناسبة لتطبيقها، وأبرز هذه المخططات «خطة مجلس الأمن القومي» في مكتب رئيس الحكومة التي وضعت عام 2006 لمواجهة ما يوصف ب «غزو العرب لأراضي دولة». وتحدثت الخطة صراحة عن إخلاء «القرى العربية غير المعترف بها» ونقل سكانها إلى مدن تقام خصيصاً لهم بداعي أنهم «فشلوا» في إثبات ملكيتهم للأرض. كما قضت بتطبيق قانون «الإخلاء والتعويض» الذي تم سنّه عام 2005 لإخلاء المستوطنين من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية. «توحيد الصفوف» وفي مواجهة «حرب كسر العظام» التي تخوضها إسرائيل ضد عرب النقب، وإذ رأى مشايخ العشائر أن نار المصادرة لن تقفز عن أي منهم، قرروا رص صفوفهم ووقعوا على «وثيقة أرض النقب»، التي أكدوا فيها رفضهم أي مساومة على الأرض «العربية الإسلامية، التي لا تباع ولا يساوَم عليها». وجاء في الوثيقة: «نحن عرب النقب أبناء العشائر والقبائل العربية، عريقة الأصول ثابتة الجذور في النقب، على أرضها التي ورثتها كابراً عن كابر، نحن أصحاب الأرض وملاّكها، نعلن لله ثم للتاريخ ولكل العالم العربي والإسلامي والغربي، مستمدين العزم من تاريخنا النضالي ومن إرث آبائنا وأجدادنا، نعلن ما يلي: - أرض النقب هي ملك أبناء العشائر والقبائل قديماً وحديثاً ومستقبلاً، وعلى هذا تعاملت الحكومة العثمانية وحكومة الانتداب البريطاني. - أرض النقب هي أرض عربية إسلامية لا تُباع ولا يُساوَم عليها ما دام فينا عرق ينبض. - نحن، أصحابَ الحق الشرعيين وملاّك الأرض، لم ولن نوكّل أحداً من الأجسام والهيئات والشخصيات أن يمثّلنا أو أن يتحدّث باسمنا أمام المؤسسات المتنكرة لحقنا. - أرضنا ملك مقدّس لأبناء مجتمعنا العربي البدوي تنتقل ملكيتها من الآباء الى الأبناء وتُصان بمهجنا، ولن نرضخ لأي قرارات تحرمنا حقنا مهما تعاقبت اللجان والدول. - هذه الوثيقة تأتي حرصاً منا على شرفنا الوطني وعلى أرضنا المقدسة، والتي لن نفرّط بذرة تراب منها مهما بلغت التضحيات، ولنا كامل الثقة بدعم مجتمعنا العربي لوقفتنا هذه محلياً وعربياً ودولياً، وذلك من خلال تبنيه موقفاً صلباً لحشد تأييد كل الشرفاء في هذا العالم لقضيتنا العادلة حتى تعود الأرض لأحضان أصحابها». وكانت المتظاهرون رددوا في تظاهرة الخميس أن «البيت بيتنا»، وأن عمليات الهدم والترحيل «لن تهدم الإرادة والنضال والتمسك بالأرض».