في قلب الصور تفاصيل كثيرة، وفي خلفياتها وأركانها تفاصيل أكثر، وخارج الإطار أحياناً تفاصيل أعمق أثراً، وأبلغ معنى، لكنها تغيب مراراً عن الرصد، مستسلمة لطغيان الصورة الوضاءة وهيمنتها. وما بين بقع الضوء وانعكاساتها اللامعة، ومساحات الظل وتواريها عن الأنظار، تتشكل طرق ومسارات، تحدد مصائر أمم وشعوب، ومآلات نظم سياسية. صورتان من مصر المعاصرة أثبتت الأحداث أن ظلهما كانا أهم من ضوئهما، وأمضى أثراً، وأجدر بالدرس والملاحظة، لكن غزو الضوء ضلل العقول، وخدر القلوب. الصورة الأولى تعود إلى 23 كانون الثاني يناير 2011 حين حضر الرئيس المصري السابق حسني مبارك احتفال الشرطة بعيدها السنوي في حضور وزير الداخلية آنذاك حبيب العادلي وقيادات وزارة الداخلية ومئات من الضباط احتشدت بهم مدرجات أكاديمية الشرطة مقر الاحتفال. وفي الحفل، الذي تصفه وسائل الإعلام عادة ب"المهيب"، مشهد التقطته كاميرات التلفزيون يجب ألّا ينسى. فحين دلف مبارك إلى منصة القاعة، التقطت الكاميرا من زاوية علوية مشهد الحضور وكلهم تقريباً من الضباط المتلألئين ببزاتهم الرسمية وشاراتهم البراقة وهم يقفون لتحية قائدهم الأعلى ويصفقون وسيماهم تنضح بالسعادة والحماسة. هذه الأبهة توحي للناظر غير المدقق في بواطن الأمور ودواخل الأحداث بأن مبارك متمتع بتأييد كامل من أركان جهازه الأمني، وبالتالي مستقر على عرشه، وآمن على سلامة نظامه. بعد هذا المشهد بيومين قامت الثورة ولم تقعد، وبعده بخمسة أيام خرجت وزارة الداخلية من معادلة الصراع، وفرّت جحافل الأمن المركزي من الشوارع والميادين، رافعة صمام الأمان الأخير عن نظام مبارك الذي سقط بعدها بأسبوعين. في ظل صورة مبارك المزهو برجاله المخلصين تفاصيل أهم: رئيس ثمانيني فقد شرعيته، وابن متلهف لوراثة الحكم، يلهو بلعبة السياسة بتهور وجموح، ونخبة شاخت على كراسيها، ودولة ساد الفساد والعطن أرجاءها، وشعب يئن اقتصادياً واجتماعياً، يلعن حكامه ليل نهار وقد نفد مخزون صبره، وجيل جديد أكثر حيوية وذكاء وتنظيماً، وأقل انصياعاً للسلطة وأوامرها. إشارات عدة على الطريق كان من الممكن أن تعيد مبارك إلى رشده، وتنبهه إلى أخطار إدمان السلطة واستمراء العناد. فما بين محاولة اغتياله في أديس أبابا في 1995 وقيام الثورة محطات عدة كانت تستوجب منه إعادة النظر وتصحيح المسار، منها ما هو سياسي مثل قيام العشرات من حركات الاحتجاج السياسي ابتداء من 2004، ومنها ما هو اجتماعي وثقافي كتنامي إضرابات العمال والموظفين، وبزوغ جيل مختلف من الشباب، وتفجر ثورة الاتصالات، ومنها ما هو شخصي وعاطفي كوفاة الحفيد المفاجئة في 2009. في مساء 11 شباط فبراير صورة أخرى آسرة للقلب ونافذة إلى الوجدان: لوحات بشرية مليونية تغني وترقص بمشاعر جياشة وقودها حب الوطن والثقة بالمستقبل، وأبواق سيارات لا يكاد ينقطع صوت نفيرها المبتهج، ورحيق البهاء والفخر والشموخ يغمر سماء القاهرة وسائر المدن المصرية، يظلله تفاؤل يطاول عنان السماء مؤكداً أن ما كان لن يعود ولو طالت السنين، ومبشراً بعودة المجد لمصر وعودة الروح لأهلها بعدما طال العبوس. صورة يتذكرها المصريون اليوم ? وقد آلت الأمور إلى ما آلت إليه - بمزيج من الحنين وخيبة الأمل. تجاهلت العقول والأفئدة ما في ظل الصورة يومها من تحديات: أوضاع اقتصادية متفجرة تحتاج حلولاً عاجلة، وتوترات طائقية لا تكاد نيرانها تخمد حتى تشتعل، وتوازنات دولية غير مواتية، واختلافات سياسية وأيديولوجية واسعة بين شركاء الميدان، وافتقاد قيادة موحدة تقود مسيرة الثورة بعد رحيل مبارك، وأناس تتوق نفوسهم إلى سيف السلطة وذهبها وتنتظر لحظة الوثوب، وشباب لا تعوزهم العزيمة والشجاعة لكن خبرتهم قليلة وبوصلتهم غائبة. ما كان في الظل يومها زحف إلى السطح وأبان وجهه القبيح للكافة في غضون أسابيع عدة. تبين للجميع صعوبة المرحلة الانتقالية، وحجم الأزمة الاقتصادية، وعمق القوة بين تيار الإسلام السياسي والتيار المدني، ودفع الوطن ثمن الوقوع في غواية الصورة والاستسلام لهيمنتها. لا يحتاج المرء لملكة خاصة أو عبقرية استثنائية ليتبين حين يضع الصورتين السابقتين - احتفال الشرطة بمبارك واحتفال الشعب برحيل مبارك - في إطار واحد مع نتائجهما أن المظاهر تخدع أحياناً، وأن غلاف القوة قد يخفي خلفه بناءً من ضعف ووهن، وأن الحلفاء الأشداء قد لا يكونون إلا نموراً من ورق تتهاوى مع أول نسمة هواء. لذلك، يجدر بالرئيس مرسي أن تظل هاتان الصورتان ماثلتين أمام عينيه دائماً، وألا ينخدع بنسبة الموافقين على الدستور، أو بنجاح حزب الحرية والعدالة في الانتخابات التشريعية السابقة، أو حتى المقبلة. وتماماً مثل سلفه المخلوع، بدأت نواقيس الخطر تدق منذ شهرين منذرة مرسي بأن ثمة خللاً كبيراً في أدائه ينبغي تقويمه. فتظاهرات عارمة خرجت إلى ميدان التحرير بل وحاصرت قصره، هتافاتها شبهته بسلفه المخلوع بل ونعتته بالفاشية، وكثير من مساعديه ومستشاريه انفضوا من حوله بل وانتقدوه في العلن، وقتلى وجرحى سقطوا نتيجة سياسات قسمت الوطن بل وقصمت ظهره. فهل يدرك الرئيس مبكراً أخطار المأزق الراهن أم يخضع لفتنة المظاهر، ويندفع في الطرق الوعرة ذاتها التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن؟ لم يصب كبد الحقيقة تماماً من قال إن"الصورة خير من ألف كلمة"، فبعض الصور خادع، وبعضها مضلل، وبعضها ناقص. ويبقى أن جوهر الأمور لا ظاهرها ينبغي أن يكون مناط التفكير، وموضوع الجدال، وقاعدة القرار. فالمقدمات عابرة، والقوة زائلة، والعبرة دوماً بالخواتيم. * كاتب مصري