جمعتني بالشابة صاحبة الشعر الطويل الداكن"صُدفة من غير ميعاد"في مطار اسطنبول. رمقتني بعينيها الزرقاوين نظرة تَحَدٍّ، أتبعَتْها بابتسامة جريئة، وكأننا صديقان قديمان، ثمّ رحَّبت بي وبعائلتي، وسرعان ما ختمت جوازات سفرنا، إيذاناً بدخولنا الرسمي إلى اسطنبول. كان أمر المرأة أشبه بمعادلة الجمع بين البارد والحار، الحلو والمالح، تماماً، كما جمعت اسطنبول بين القارتين، أوروبا بعينيها الزرقاوين، وآسيا بشعرها الداكن. قبل أن تحطّ بنا الطائرة، رأينا من علوٍّ الجانبَ الأوروبي من المدينة، حيث تكثر المراكز التجارية، فيما الجانب الآسيوي يعمر بالجوامع والبيوت. وقد عُرِفَت اسطنبول باسم"القسطنطينية"، نسبة إلى مؤسِّسها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول الكبير، وذلك في عام 330 م. وفي عام 390 م، انشقَّت عن الإمبراطورية الرومانية، وعُرِفَت باسم"بيزنطة"أيضاً. ومنذ القرن الخامس، أنشِئَت حول المدينة أسوار، ما زالت موجودة إلى يومنا هذا. وبعدما فتحها المسلمون بقيادة السلطان محمد الثاني الفاتح في عام 1453، سمّوها إسلامبول"مدينة الإسلام". بينما كانت السيارة ال"مرسيدس"التي أقلَّتنا من المطار، ترسم انحرافاتها نحو الفندق في منطقة جيهان كير، انقلبت الأمور فجأة إلى ما كنت أخشاه. توقّفت السيارة في أحد الأزقة الملتوية، أمام باب لا يتَّسع لدخول شخصين، كُتب أعلاه اسم الفندق الذي حجزنا فيه من خلال شبكة المعلومات الدولية. وهنا أيقنت خطئي الفادح في التقدير ما بين الصورة والواقع، الافتراضي والحقيقي. وقفت لبرهة لأستطلع المكان من حولي، وإذ بفتاة تمرّ مسرعة بالقرب منّي، استوقفتها لأسألها عن كيفية الوصول إلى ميدان تقسيم وشارع الاستقلال، فأشارت إليَّ، وهي ترفع ذراعها في اتجاه اليمين، بأن المكان لا يبعد سوى خمس دقائق سيراً على الأقدام. شكرتها بلغتي الإنكليزية المتلعثمة، فأجابتني بالعامية اللبنانية:"ولَوْ نِحْنا إخوان"؟ متحف آيا صوفيا صباح اليوم التالي، وفي طريقنا إلى"آيا صوفيا"، شاهدنا مضيق البوسفور وهو يعجّ بالسفن التي تتزاحم على المرفأ لتقذف ما بداخلها إلى شوارع المدينة الولهة للبشر، بينما"الترمواي"الأخضر يتهادى ضمن مساراته. كنا ننظر إلى المارَّة فنشعر بتلك الطاقة النضرة المتدفقة من وجوه الجميع... إنها مدينة مفعمة بالحياة، انصهر فيها الجمال الأوروبي مع الأصالة الشرقية، الجوامع محاطة بنساء يرتدين الشورت الأكثر سخونة في العالم. قابلتُ قاطع بطاقات الدخول إلى آيا صوفيا بابتسامة لطيفة، بينما كنا نواصل مسيرنا. أثناء مرورنا بين أروقة المتحف الذي كان في السابق كنيسة ثم أصبح جامعاً، لمحت الدمع في عيني ابنتي هيلانا تأثراً بجمال ما ترى وروعته. آيا صوفيا، بُنيت في الأصل كنيسة، وتهدَّمت وبُنيت مرات عدّة. أما التي نراها اليوم فقد بُنيت بين عامي 532 و537 م، وبعد الفتح الإسلامي أمر السلطان بتحويل الكنيسة إلى مسجد في عام 1453 م. وقد أُضيف إلى المبنى محراب في جانب القبلة في إحدى الزوايا الخلفية، كما أضيفت منارة ثانية في القرن الخامس عشر، تبِعَتها ثالثة ورابعة في القرن السادس عشر على يد المعماري سنان. واستخدم المبنى مسجداً للصلاة حتى عام 1934، حيث أغلق بأوامر من الرئيس كمال أتاتورك للترميم والإصلاحات، إلى أن افتتح كمتحف في عام 1938. وبمجرد دخولك إلى المكان الرئيس، تبهرك القبة التي تبدو كأنها منفصلة عن البناء، معلَّقة في الهواء، وتحيط بها أربعون نافذة. وفي وسط القبة سورة النور مكتوبة، وعلى مسافة غير بعيدة منها، لوحات دائرية ضخمة، يقدر قطر كل لوحة بحوالى 7.5 متر، معلَّقة في الزوايا والجدران الجانبية. وفي الجانب الأيمن من المحراب اسم الجلالة"الله"، وفي الأيسر"محمد"، وعلى الجدران الجانبية أسماء الخلفاء الراشدين: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. وفي الجانب الأيمن من المدخل اسما حفيدي النبي:"الحسن والحسين". وعلى أحد الجدران يوجد رسم للسيدة مريم مع عيسى المسيح، وعلى يمينها الإمبراطور كونستانتين قسطنطين، وعلى يسارها الإمبراطور"جوستين ين"، يُمسك بيده نموذجاً مصغراً من الكنيسة. وعلى جدار آخر يطالعك رسم بديع بالفسيفساء، تتمثل فيه السيدة مريم ويوحنا المعمدان، يضرعان إلى المسيح كي يُرسل المُذنبين أيضاً إلى الجنَّة. لا يشقّ عليَّ كثيراً الوصول إلى الطبقة العلوية، بواسطة طريق مائل، حيث صعدت مع عائلتي، وإن بَدَت زوجتي ممتعضة من هذا الطريق الوعر المؤدّي إلى الدور العلوي الذي كان مخصَّصاً للنساء، لتأدية المناسك. بعدها، قصدنا شارع الاستقلال الذي يعجّ بالمتسوّقين والمشاة، وتحيط به المقاهي والحانات، وفي وسطه، حيث يُمنع دخول السيارات، استمتعنا بركوب ترمواي يدعى"الشوق إلى الماضي"، يسير جيئة وذهاباً على مسار واحد. ويتفرَّع هذا الشارع من"ميدان تقسيم"، وقد سُمِّي كذلك لأنه يقع فيه مبنى توزيع المياه إلى أنحاء المدينة، ويرجع تاريخه إلى عام 1733م، ويُعتبر الميدان قلب اسطنبول النابض، إذ يقع في الجانب الأوروبي من المدينة. يبدو شارع الاستقلال نهراً متدفقاً من البشر وباعة يبسطون بضاعتهم في كل مكان. فهذا يبيع المحار المحشو بالأرز، مع عصر بضع نقاط من الليمون، وذاك ينادي على الذرة المشوية والمسلوقة، وآخر يضع السميط وبعض المخبوزات المحبَّبة إلى النفس... إنه مكان يصعب وصفه. مجمع السُليمانية كان يوم سبت، وخلال تناولنا الإفطار، قالت زوجتي اليوم بنروح السُليمانية، فآثرت السلامة ووافقت من فوري متمنِّياً أن يكون المقصود بالسُليمانية جامع سليمان القانوني، فبدأت أميل إلى أن المسلسلات التركية لا تخلو من فائدة، في وقت يعيش عالمنا العربي في الخواء. نظرت إليَّ بابتسامة عريضة، واستكملت حديثها عن السلطان سليمان القانوني الذي تولّى الحكم وهو في الخامسة والعشرين من عُمره، خلفاً لوالده السلطان سليم الأول، وذلك بتاريخ 22 أيلول سبتمبر 1520 م، واستمر في الحكم لمدة ستة وأربعين عاماً. وبلغت الدولة العثمانية في عهده الحدود القصوى للسلطة والهيبة والقوة، فاتسعت رقعتها، وارتقت فيها الآداب، وازدهرت العمارة والفنون. وعلى رغم عظمته، يبدو أن السلطان لم يكن واسع الحيلة مع زوجته"هويام"، ولذلك يُحسب عليه قتله صديقه الصدر الأعظم إبراهيم باشا في 15 آذار مارس 1536 م، بعدما أقنعته"هويام"بأنه يتآمر عليه ويطمع في الحكم. وقتل السلطان سليمان أيضاً ابنه مصطفى، وابنه بايزيد وأولاده جميعاً في مدينة قزوين. وكان لبايزيد ابن صغير في مدينة بورصة، فتمَّ خنقه أيضاً، ودفن إلى جانب والده وإخوته. يُشبه تخطيط المسجد من الداخل التصميم المعماري ل"آيا صوفيا"، وفي وسط المسجد قبّة رئيسة يبلغ ارتفاعها خمسين متراً، قائمة على أربع قناطر متينة، وتوجد حولها قبّتان نصفيتان مساندتان للقبّة الرئيسة التي تحيط بها 32 نافذة لإدخال الضوء إلى المسجد، إضافة إلى 136 نافذة أخرى توجد في صحن المسجد. وتُحيط بالمسجد أربع مدارس لتدريس المذاهب الأربعة، وخلفه يقع خان وحمام ومدرسة، ومبنى كان يُستخدم سابقاً مستشفًى. لذلك، سُميت تلك المباني بمجمع السُليمانية، فهي أشبه بمدينة صغيرة. ومن الحكايات الشعبية الشهيرة حول السُليمانية، أن شاه إيران، أرسل هدايا ثمينة من الياقوت والزمرد والمرجان إلى السلطان سليمان، للمساهمة في بناء المسجد، ما أغضب السلطان، واعتبرها استخفافاً بقدراته المالية، وتقليلاً من شأن الدولة فأمر في دفن الهدايا تحت المسجد. * كاتب فلسطيني مقيم في أبو ظبي