تشي حوادث الأيام الأخيرة في مصر بأن الديموقراطية الحقيقية ما زالت حلماً طوباوياً بعيد المنال. فعلى صعيد محاكمات رموز نظامي مبارك ومرسي برأت المحكمة الفريق أحمد شفيق ونجلي الرئيس الأسبق جمال وعلاء من تهمة الاستيلاء على أرض جمعية الطيارين. أما في ما يخص الرئيس السابق محمد مرسي فقد أحيل هو وبعض قيادات الجماعة إلى محكمة الجنايات في قضية هروب السجناء من سجن وادي النطرون أثناء أحداث ثورة 25 يناير. وعلى صعيد آخر فقد حُكم على ثلاثة من شباب الثورة بالسجن لمدة ثلاثة أعوام بتهمة التظاهر من دون ترخيص والتعدي على قوات الأمن أمام محكمة عابدين. ولأن القراءة السياسية لأحكام القضاء كانت ومازالت أحد المحددات الرئيسية للخطاب التحليلي المصري بفعل فشل الثورة المصرية وموجتها الجديدة التي اندلعت في 30 حزيران يونيو في تدشين قواعد واضحة ومحددة للعدالة الانتقالية أو على الأقل تحييد أدوات الدولة الدستورية والقانونية وعدم الزج بها في أتون الصراع السياسي، فيمكن انطلاقاً من ذلك القول إن تلك الأحكام تعني ظاهرياً عودة الحقبة المباركية كما تعني ضمناً منح مزيد من الوهج للحالة الخمينية التي يريد الإخوان المسلمون اختلاقها انطلاقاً من مجريات الأحداث في مصر. فهذا المسار القضائي المتعلق بقضية هروب السجناء من سجن وادي النطرون وإن كان سليماً من الناحية القانونية، يعيدنا ببساطة إلى اللحظات الأولى من عمر الثورة المصرية بعيد أحداث جمعة الغضب في 28 كانون الثاني يناير عندما خرج اللواء الراحل عمر سليمان رئيس جهاز الاستخبارات ونائب الرئيس الأسبق حسني مبارك ليعلن أن ما حدث أثناء جمعة الغضب هو مخطط إخواني لإشاعة الفوضى في مصر نُفذ بمساعدة عناصر من حماس و"حزب الله". وقتها عُين الفريق أحمد شفيق رئيساً لوزراء مصر وكان السيناريو المتوقع من قبل نظام مبارك حينها هو التخلي عن التوريث مع الاعتماد على القراءة الاستخباراتية لمجريات الفعل الثوري للتشكيك في شرعيته وتفريق الجماهير المحتشدة من حوله والدفع في الوقت ذاته بشخصيات بيروقراطية تتمتع بحسن السمعة والقدرة على الانجاز كالفريق أحمد شفيق. ولأن الموجة الثورية في 25 كانون الثاني 2011 كانت أقوى وأعتى من تلك المحاولات فقد رفضت الجماهير هذا التحليل السلطوي للثورة وما تواكب معه من إجراءات كتعيين عمر سليمان نائباً للرئيس وتعيين شفيق رئيساً للحكومة. وفي المقابل، فجماعة الإخوان تتعاطى مع حال الارتداد إلى الحقبة المباركية بشخوصها ومنطقها السياسي في قراءة الأحداث وعدائها المعلن لشباب الثورة باعتبارها خطوة أولى على طريق تحقيق وهم الجماعة الأيديولوجي الذي سيطر عليها في لحظة الأزمة، فدفعها في اتجاه مواجهة المباركية بسيناريو الثورة الخمينية، وذلك من خلال تشكيل قيادة ثورية من إسلاميي المنفى الفارين من مطاردة الجهاز الأمني المصري بغية استثمار أخطاء السلطة الانتقالية في تحريك الشارع ضدها وإشعال ثورة إسلامية تنتهى بسقوط النظام وعودة إسلاميي المنفى لتولي السلطة بالتعاون مع القيادات الإخوانية المعتقلة. وهو ما يؤكد في النهاية أن الديموقراطية أصبحت حلماً مستحيلاً، فهذا الصراع ما بين المباركية والخمينية لا يمكن أن يفضي أبداً إلى ولوج البلاد في مسار ديموقراطي، لأنه ببساطة يعبّر عن حالة انتهازية سياسية يريد من خلالها كهنة النظام المباركي والإخواني استثمار تلك اللحظة الحرجة والمعقدة من عمر مصر للعودة إلى السلطة من جديد مجهضين بذلك أي حلم في تغيير طبيعة النظام السياسي أو الثقافة السياسية السائدة. وتلك هي المعضلة التاريخية الكبرى التي تواجه الثورة المصرية وحلمها الديموقراطي. فقدرة المباركية على استئصال الخمينية أو العكس هي محض وهم يعيش فيه كلا الفريقين لأن كلتا الفكرتين تفضيان إلى العودة إلى منظومة قيم ديكتاتورية بالية. فبحسب ما أشار عالم الاجتماع الهنغاري كارل مانهايم في كتابه"الأيديولوجيا والطوبى"، فإن الصياغات الوجودية والمنطقية الناجمة من نظرة معينة للعالم وعن نمط فكري معين تذوب في الصراع بين الأطراف المعنية، ولكن في العالم المضطرب حين تخلق قيماً جديدة وتدمر قيماً قديمة، فإن الصراع بين فكرتين يمكن أن يذهب إلى الحد الذي يسعى فيه كل الخصوم ليس فقط إلى إبادة المواقف والمعتقدات لدى الآخرين، بل إلى إبادة القواعد الفكرية التي تستند إليها تلك المعتقدات والمواقف. لذلك فأوهام الاستئصال المتبادلة بين الفريقين في ظل تطابق وتقليدية العالمين المباركي والخميني تعني أن علاقة هذا الصراع بانهيار العملية الديموقراطية باتت علاقة عضوية ما بين علة ومعلول. ومن ثم فإن استمرار الصراع يعني استمرار مسلسل الانهيار والعكس بالعكس. * كاتب مصري