في العام 2005، انتقلت للعمل في دبي. كانت دبي أشبه ما تكون بورشة بناء لا تهدأ، لا ليلاً ولا نهاراً. حركة عمران تسابق الزمن، تسافر لأسابيع ثم تعود فتفاجئك قفزات مبهرة في المباني والطرقات وإعلانات الشوارع. كان مكتبي في مدينة دبي للإعلام، ولأنني كنت منهمكاً في تفاصيل العمل الجديد، كانت الستائر في مكتبي مغلقة طوال الوقت ولم ألتفت اليها إلا بعد أشهر. وحينما فتحت الستائر فوجئت بأن مجموعة من الأبراج الشاهقة في الأرض الخالية خلف مكتبي قد صعدت، تسابق بعضها بعضاً نحو السماء. ويا للمصادفة! فمكتبي اليوم - حيث أكتب هذا المقالة - يقع في أحد هذه الأبراج. كانت الناس - وكنت منهم - تتساءل: لماذا تبني دبي كل هذه الأبراج والبنى التحتية؟ وعشنا في دبي دهراً نسمع المتوجسين والمحللين والصادقين والحاسدين والمندهشين والخائفين يكررون التحذير من"دبي الفقاعة"! وكان ثمة من يتساءل قلقاً: لمن كل هذا البنيان؟ كان شعار المرحلة حينها:"إبنِ وسيأتون"! كانت دبي تبني وكانت الناس من بقاع الأرض كلها تتوافد نحوها، تُعرض المشاريع العقارية الجديدة للبيع فتطير كلها في ساعات قليلة. وفي غالب الأوقات كان المطلوب أكثر من المعروض، ولما وقعت أزمة 2008، وهي من تداعيات الأزمة المالية العالمية، انكشف كثير من أخطاء السوق العقارية في دبي، وفي الوقت ذاته ظهر مدى"تشفي"البعض في العالم العربي وخارجه بدبي، تشفٍ فيه كثير من الجهل وسوء النية. خلط البعض بين ديون شركة اسمها"دبي العالمية"ودبي، وبرزت عناوين الإثارة الفضائحية في الصحافة البريطانية واختلطت فيها الحماقة مع الجهل مع الكذب مع ضيق الرؤية، ونحن في دبي ضحكنا أكثر مما تألمنا لتلك القصص الخيالية، مثل قصة"التايمز"البريطانية التي زعمت أن مواقف مطار دبي اكتظت بالسيارات الفارهة التي تركها أصحابها الأجانب ولاذوا بالهرب بسبب ديونهم المتراكمة، وكان من المؤسف أن تطفو رائحة"الشماتة"في صحافة الجوار كما لو أن في نهوض دبي ما يهدد اقتصاد الآخرين. لم يدرك أصحاب تلك المواقف الشامتة أن في نجاح أي مشروع عربي نجاحاً لكل العرب. لكن السؤال الشهير، لماذا نجحت مشاريع التنمية في أبوظبيودبي والدوحة وفشلت غيرها؟ كان يحرض على مزيد من الأسئلة عن سوء خطط التنمية وتغلغل الفساد الإداري والمالي في مدن عربية كثيرة، سادت دهراً ثم بادت! دبي لم تكترث بتلك الأصوات، بل واصلت مسيرتها نحو وجهتها التي هي"المستقبل"وتركت غيرها في ظلامات الماضي غارقين. وعلى رغم كل تداعيات أزمة 2008 الاقتصادية، إلا أن وجوهها الإيجابية كثيرة. أحياناً تدفعك أزمتك لمراجعة ضرورية مع الذات، وهذا ما كان في دبي. استوعب صناع القرار في دبي دروس الأزمة، وأهمها ضرورة أن تعود دبي إلى أساسيات اقتصادها الرئيسة، التصدير وإعادة التصدير، الموانئ، المطارات، طيران الإمارات، تطوير مميزاتها السياحية... إلخ. وأدرك العالم كله أن اقتصاد دبي لا يدور في فلك خارج منظومة الدولة. فإمارة دبي جزء من حراك مبهر في دولة تسابق الزمن نحو المستقبل. طوت دبي - بإيجابية - صفحة الأزمة وانطلقت نحو مستقبل جديد تدرك تحدياته وفرصه، وواصلت بالتالي مشروعها العملاق وفق رؤيتها لنفسها ولمستقبلها لتثبت الأيام أنها كانت وما زالت"ضرورة"للمنطقة كلها. تركت الآخرين منشغلين بصراعات السياسة وجدالات الأيديولوجيا وركزت على مشروعها التنموي الضخم، وما إن تضيق المدن بأهل السياسة في المحيط العربي المنشغل بتصفية حساباته مع الماضي حتى يهرعوا نحو الملاذ الآمن في دبي. دبي لا تشغل نفسها سوى بالتنمية، وهذا من أسرار تفوقها. ووجدت العقول العربية المبدعة ضالتها في دولة الإمارات العربية المتحدة. فمشاريع أبو ظبي ودبي العملاقة استقطبت الآلاف من المبدعين العرب، والبيئة العملية للاستثمار استقطبت الآلاف من رواد الأعمال الشباب من المنطقة وخارجها، والإمارات اليوم محط أنظار الشباب العربي المبدع، بل إنها صارت"حاضنة"للأفكار الشبابية المبدعة في مجالات كثيرة، مثل الإعلام والمال والأعمال، وهي اليوم من مصادر"الإلهام"لدى شباب المنطقة. ففي استطلاع أجري عام 2012 مع شباب من 12 دولة من دول الشرق الأوسط، أشار الشباب المشاركون إلى أن الإمارات هي الدولة النموذج الذي يودون أن يروا بلدانهم تتبعه من حيث النمو والتطور. ودبي اليوم، وهي تنتظر خبر فوزها شبه المؤكد باستضافة"إكسبو 2020"، تراهن على خططها التنموية الطموحة، فازت بتنظيم الفعالية أو لم تفز. فنسبة الإشغال الفندقي اليوم في أعلى معدلاته. وتمتلك دبي 602 منشأة فندقية تحوي 81000 غرفة فندقية، ومن المنتظر افتتاح 25 فندقاً جديداً ب6250 غرفة فندقية نهاية 2014. أما حركة الطيران عبر دبي فإنها تشكل نقلة مهمة في صناعة السفر على مستوى العالم، إذ استقبل مطار دبي 32.6 مليون مسافر خلال النصف الأول من العام الحالي، ومن المتوقع أن يخدم مطار آل مكتوم الدولي - عند إنجاز بقية مراحله بحلول عام 2020 - 160 مليون مسافر. ولو بحثنا في المنطقة كلها فلن نجد بلداً أكثر تأهيلاً لاستضافة فعالية"إكسبو"مثل الإمارات التي باتت اليوم مركزاً عالمياً للتجارة والخدمات اللوجستية، وهي تعد ثالث أضخم سوق لإعادة التصدير في العالم. وفيها اليوم مكاتب لنصف الشركات العالمية المدرجة في قائمة"فورتشن 500". كل ما سبق نقطة في بحر الإمكانات المبهرة التي تمتلكها الإمارات اليوم، وهي متاحة لكل من يبحث - بحياد - عن مؤهلات الإمارات لاستضافة"إكسبو 2020". لكن الأهم من كل ما سبق هو المنجز الأكبر في هذه الدولة الفتية: الإنسان! يعجبني في المواطن الإماراتي ثقته وإيمانه ببلاده ومستقبلها. عملت وتعاملت مع قيادات شابة من أبناء الإمارات، وأستطيع الجزم بأن غالبيتها لا تقل كفاءة ولا تأهيلاً عن أبرز القيادات العالمية الشابة اليوم. في كتابه الشهير،"ومضات من فكر"، كتب حاكم دبي:"القائد العظيم يصنع قادة عظماء، ولا يختزل المؤسسة في شخص واحد فقط". وقبل أيام سمعته يثني على جهد القيادات الإماراتية من جيل المؤسسين، قال إنهم آمنوا بمشروع الوطن الموحد، لكنه شد انتباهي حينما أضاف:"لا يهمني أن تحبني قدر ما يهمني أن تحب وطنك". الحديث اليوم في الإمارات عن فوز دبي باستضافة"إكسبو 2020"، وهنا وجب التذكير بأهمية التنبيه إلى مخاطر الانسياق وراء سعي المضاربين في سوق العقار للعودة إلى أجواء ما قبل 2008. ليس من مصلحة دبي أن يتلاعب"المضاربون"بأسعار العقار. وعلى المدى البعيد سيكون غلاء العقار ضرراً بالغاً على حركة الاقتصاد في دبي، إذ لا يمكن أية مدينة أن يقوم حراكها على طبقة واحدة من الأثرياء والقادرين على شراء البيوت الفخمة أو دفع إيجارات عالية. أثق بأن صانع القرار في دبي سيبقى في المرصاد لأية محاولة - مهما كان مصدرها - تسعى إلى استغلال حدث عالمي مهم تستحقه دبي،"إكسبو 2020"، للإساءة إلى سمعة دبي وتنفير الشركات الصغيرة منها."إكسبو 2020"حدث من المهم أن يحتفي ويفرح به كل من سكن دبي وليس وبالاً على قطاع مهم من سكان دبي يضع يده على قلبه خوفاً من ارتفاع الإيجارات والأسعار! أما وقد بدأت بقصة"إبنِ وسيأتون"فسأختتم بعنوان مقالتي:"واصل البناء... ها هم يعودون". وفي عودة دبي الى الريادة في مشاريعها التنموية والسياحية عِبَر ودروس للمنطقة كلها. بل ليست مبالغة إن قلت إن"مخرج"دول المنطقة كلها من فوضاها العارمة ربما كان في تجربة الإمارات التنموية. فمن لا يُشغل نفسه بالبناء والمستقبل سينجر الى الانشغال بالدمار وصراعات ماضٍ طويل من الظلام الخراب! *الرئيس التنفيذي للهتلان ميديا - دبي