تتسارع وتيرة التجاذب السياسي والامني في العراق مع اقتراب موعد انسحاب القوات الاميركية من المدن العراقية الى خارجها، وهو الانسحاب الذي اكد قادة اميركيون وعراقيون انه سيتم في موعده نهاية الشهر الجاري من دون استثناءات، لكنه يتضمن ايضاً هامش تدخل عسكري اميركي بطلب من الحكومة للإسناد في العمليات الكبيرة وأيضاً في تدريب القوات العراقية. وإضافة الى تصاعد الشكوك في قدرات القوى الامنية العراقية في تزامن مع عودة اعمال العنف بأساليب وصفت بأنها نوعية وشملت اغتيالات كبيرة واستهدافات لمناطق لم تكن محسوبة على خريطة الاضطراب الامني، فإن الارتباك الذي بدا واضحاً أخيراً في الشأن الامني العراقي وتحوله الى وسيلة اسقاط سياسي له ما يسوغه في ضوء استمرار محاولة اطراف حكومية «احتكار» اي انجاز امني او سياسي ومن ذلك الانسحاب الاميركي لأغراض انتخابية، ومضي اطراف اخرى في لعبة الاسقاط السياسي المقابل. تحديات امنية شرح وزيرا الدفاع والداخلية العراقيان في مؤتمر مشترك مع قائد القوات الاميركية في العراق ترتيبات الانسحاب الاميركي من المدن، وأكد الجميع ان الانسحاب سيكون شاملاً، مفندين بذلك تقارير عراقية واميركية كانت تحدثت عن استثناء بعض المدن المضطربة من الانسحاب ومنها بعقوبة والموصل وبلدات محيط بغداد. وعلى رغم دقة التوقيتات والخطط التي اعلنت لترتيبات الانسحاب والتعهدات العراقية بسد اي فراغ امني قد ينجم لاحقاً، فإن ما بدا لافتاً ان القادة الامنيين العراقيين، وانضم اليهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، اطلقوا تحذيرات جدية عن وجود «مخططات ارهابية» لتصعيد اعمال العنف بالتزامن مع الانسحاب. ومع وجود قدر من محاولة الامتناع عن منح وعود سياسية كبيرة والتحسب للاحتمالات الاسوأ، فإن تواتر المعلومات عن اكتشاف دخول اطنان من الاسلحة والمتفجرات الحديثة الصنع الى العراق خلال الشهور الماضية، وورود معلومات اخرى عن عودة مليشيات مسلحة، وتفعيل تنظيم «القاعدة» لنشاطاته بعمليات كبيرة اختفت منذ منتصف عام 2008، تدعم فرضية احتمال تعرض المشهد الامني العراقي الى المزيد من التصعيد خلال الشهور المقبلة، وخير دليل على ذلك التفجيران الكبيران اللذان هزا مدينتي تازا والصدر أخيراً وأسفرا عن عدد كبير من القتلى والجرحى. لكن تصاعد العنف لن يتخذ، بحسب وجهات نظر اكثر التصاقاً بالواقع الامني، منحنيات شديدة، فانتشار نحو مليون عنصر امن في انحاء العراق لن يتيح على المدى الطويل فرصاً كبيرة لإعادة سيناريو احتلال الميليشيات والمجموعات المسلحة للمدن مرة اخرى. كما ان البيئة الاجتماعية التي سمحت بنمو المجموعات المسلحة وتكاثرها تغيرت الى حد بعيد وما عادت في معرض مقايضة جديدة. لكن المخاطر الحقيقية ما زالت قائمة عبر نشاط من نوع آخر يركز على اغتيالات نوعية ومؤثرة على غرار عملية اغتيال زعيم كتلة التوافق في البرلمان حارث العبيدي. مواقف متباينة تطبيق الانسحاب الأميركي من المدن يفترض ان يقدم ادلة واقعية على جدية الولاياتالمتحدة في مغادرة هذا البلد في نهاية عام 2011 وفق الاتفاق الامني الموقع بين الجانبين. لكن الاطراف المسلحة العراقية بدت وكأنها لن تتعامل مع الانسحاب من المدن او الانسحاب الكامل باعتباره موقفاً اميركياً نهائياً. فتنظيمات مثل «كتائب ثورة العشرين» و «الحزب الاسلامي» و «جيش المجاهدين» وغيرها رفضت الاتفاق الأمني واعتبرت ان الطريق طويل قبل ان تجلس في جردة حساب مع تداعيات الاحتلال الاميركي للعراق، كما انها تعتقد ان العمل المسلح لن يتوقف ما دام النفوذ الايراني في العراق متغلغلاً ومتواصلاً. تيار الصدر والمجموعات التي يطلق عليها الاميركيون اسم «المجموعات الخاصة» اتخذت موقفاً مشابهاً، فأعلنت رفض الاتفاق وشككت بصدقيته واعتبرت ان حق المقاومة متواصل لأن للاحتلال تداعيات مثلما ان للانسحاب تداعيات اخرى. ما يلفت في موقف تنظيم «القاعدة» الذي ما زال الجدل دائراً حول وجوده في العراق وثقل هذا الوجود بعد ضربات كلفته مجموعة من كبار قادته الميدانيين، فانه كان واضحاً بالحديث عن رفضه القاء السلاح بكل الاحوال وتأكيده انه لا يقاتل الجيش الاميركي بل كل الانظمة وكل الاتجاهات التي لا تلائم فكر «القاعدة». ويقول بيان قبل ايام للتنظيم تعليقاً على الانسحاب الاميركي انه يرفض ما يعتبره «محاولات يائسة لقطف ثمار الجهاد في العراق» ويرفض ان «يحكم العراق من يختاره الشعب». ويمكن القول ان موقف كل الاطراف المسلحة العراقية الاخرى سواء تلك التي بايعت الأمين العام لهيئة علماء المسلمين حارث الضاري مفاوضاً باسمها ام التي انضوت تحت «المجلس السياسي للمقاومة» وأيضاً تلك المقربة من رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، تحاول ترتيب اوراقها بطريقة واخرى استعداداً لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي. وفي الاستراتيجيات غير المعلنة، فإن إلقاء السلاح لن يتم على اية حال قبل عام 2012 وربما بعد ذلك لاعتبارات كثيرة، ويقول مقربون من الحكومة العراقية التي فتحت بالفعل قنوات اتصال مع مجموعات مختلفة انها (المجموعات) ترحب بالحوار لكنها ترفض القاء السلاح في هذه المرحلة ولحين الانسحاب الاميركي الكامل. وتندرج قضية القاء السلاح ضمن جدلية «من يقطف ثمار الانسحاب؟» التي تتجاوز الاطراف المسلحة الى السياسية وتشكل بمجملها عقدة خطيرة في المستقبل العراقي القريب. الاحتفال بمغادرة آخر جندي اميركي يعتبره المقاتلون السنّة ثمرة ل «جهادهم» ويصنفه المقاتلون الشيعة ضمن تداعيات «مقاومتهم» وبين هذا وذاك تتنوع التصنيفات وتتشظى الى عشرات المعطيات الفرعية التي تطرح فرضية «توزيع غنائم النصر»، وتلك الغنائم تتضمن بالطبع دوراً سياسياً ووزناً اجتماعياً ومحاولة تقويم آليات كتابة التاريخ المعاصر. ثمار انتخابية «من يقطف ثمار الانسحاب؟» سؤال لا يقف عند حدود الجماعات المسلحة بل هو يشكل عملياً اليوم جوهر الصراع السياسي في البلاد لاعتبارات تتعلق بالدرجة الاساس بتزامن الانسحاب من المدن والتحضير للانسحاب الكامل مع نقلة سياسية كبيرة ينتظرها العراق خلال الانتخابات التشريعية التي ستنطلق بداية عام 2010 ونقلة اكبر واكثر مصيرية عام 2014. وعلى رغم عدم تداول مفهوم «ثمرة الانسحاب» في شكل علني في الأطروحات ذات الطابع الانتخابي التي تسيطر على المخرجات السياسية في العراق هذه الايام فإن هذه القضية تحتل حيزاً واسعاً في سلوك الوسط السياسي العراقي. وكانت آلية تحول تجربة فرض الأمن في العراق عام 2008 الى شعار انتخابي دفع رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الى تصدر انتخابات المحافظات الأخيرة، اثارت ردود فعل سلبية لدى الاطراف المتحالفة مع المالكي في الحكومة واعتبرت محاولة من رئيس الحكومة والجبهة التي تحالفت معه لتجيير الإنجاز الأمني لأغراض انتخابية. وتلك المخاوف تتعاظم مع معطيات تلمح منذ شهور الى محاولة طرح المالكي ك «بطل للتحرير» بعد ان طرح ك «بطل للأمن»!. واللافت في هذا الشأن ان الوسط الحكومي العراقي لم يستبق طرح هذه الفرضية قبل ظهور نتائجها، بل ان ذلك الوسط متخوف بدوره من الميزان الانتخابي الذي سيقوّم الاتفاق الامني مع واشنطن. وقبل بروز نتائج ملموسة لذلك الاتفاق فإن اي نتائج سلبية ستستخدم انتخابياً لاسقاط الحكومة، ومن ذلك تصاعد اعمال العنف او تأخير الاستفتاء على الاتفاق او تعديل جداوله. لعبة الاستخدام المزدوج لنتائج الاتفاق والانسحاب سيكون لها الحيز الاكبر من اية قراءة موضوعية للشهور المقبلة. والغائب الاكبر في هذه المرحلة عن المشهد السياسي العراقي هو الاعتراف السياسي العام بأن الاتفاق الامني وكذا الانسحاب الاميركي كان محصلة عوامل عديدة جداً لا تقف عند حدود الحكومة او البرلمان او المجموعات المسلحة. الخطوة الأولى المطلوبة لكل الوسط السياسي داخل الحكومة وخارجها، وربما داخل العملية السياسية وخارجها ايضاً، هي الاعتراف بأن الانسحاب الأميركي قرار اشترك في صوغه العراقيون بمختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم ومواقفهم السياسية وهو بذلك لن يكون حكراً على طرف سياسي ولا على طبقة سياسية او اجتماعية او فكرية من دون اخرى، وذلك قد يكون مدخلاً لتحمل مسؤولية اي تداعيات سلبية سيخلفها الانسحاب مثلما هي خطوة لانتاج رؤية مشتركة لمعالجة تلك السلبيات المتوقعة بدلاً من استثمارها كوسيلة اسقاط سياسي.