صدرت أخيراً الترجمة العربية لرواية غيوم ميسّو"وبعد""المركز الثقافي العربي"و"سما للنشر" بتوقيع حسين عمر، وهي نشرت بالفرنسية في 2004 وتحولت فيلماً في 2008. نجدنا أمام عالم غيوم ميسّو المعقد والمدهش والثري. الرواية تعتمد على حادث بسيط، وهو محاولة الطفل ناتان الغطس لإنقاذ صديقته من الغرق في البحيرة المتجلدة، فيتعرض هو نفسه للغرق ويصل إلى شفا الموت، أو بمعنى أصح يذهب إلى الموت ويكتشفه ثم يعود إلى الحياة، وتمر الأعوام وينسى الحادثة تماماً ثم يصبح محامياً ويتزوج صديقته القديمة وينجب وينفصل ولكن حياته كلها تنقلب رأساً على عقب عندما يدخلها الطبيب غودريش. كيف تناول غيوم ميسّو تلك الحادثة البسيطة وبنى عليها روايته وقدم شخصياته وتناول خباياها وأغوارها؟ ذلك هو المهم فى رواية"وبعد"، فالرواية تدور حول جملتين محوريتين تعدان العمود الفقري للرواية، الأولى" أجري بسرعة كبيرة ولن يلحق بي الموت"، والثانية"مكان نذهب إليه جميعاً"، وحول الموت الذي هو هناك ينتظرنا وبين الهناك الذي هو في ما وراء الموت، تتمحور فلسفة الرواية ككل وتتمحور فيها أيضاً صراعات ناتان الداخلية، فهو الشخص العملي الجاد الناجح في عمله والذي لا يؤمن إلا بالحياة الدنيا فقط بعيداً من الروحانيات والمعتقدات على مختلف أنواعها"فأنا من النوع العقلاني وحياتي الروحية تسير كحياة دودة الأرض". بالفعل ناتان يدرك أن حياته سلكت مساراً مغايراً لمسار نجاحه المهني، فقد تفككت حياته الزوجية في السنوات الأخيرة وتحول المكتب ليصبح حياته إلى درجة أنه لم يعد لديه الوقت لتناول وجبات الفطور مع العائلة أو الاهتمام بابنته. وحينما تحقق من فداحة الأضرار كان الأوان قد فات على العودة للوراء ووقع الطلاق منذ بضعة أشهر"إن كل هذا الفشل العائلي والشعور التام بالوحدة التي باغتته منذ فترة يكاد يطير بعقله في الهواء وناتان يعلم هذا جيداً ويشعر بالندم"..."إن رجلاً ينام من دون أن يكون إلى جانبه شخص ولم ير ابنته الصغيرة منذ ثلاثة أشهر لم ينجح في حياته وإن كان مليونيراً". من هذا الصراع الداخلي يقدم غيوم ميسّو روايته ويسير بنا عبر التشويق موازياً للفلسفة وللنقاش حول العلم /العقيدة، الموت / الحياة / الحب /الفقد، لنجد أنفسنا في صلب العمل الفني، ونجدنا معاً في حياة ناتان وفي اقتحام الدكتور غودريش لها، ذلك الطبيب الذي يحاول جر ناتان للاعتقاد بالمبشرين..."هناك أشخاص يعدون من سيموتون للقيام بالقفزة الكبيرة في العالم الآخر، دورهم تسهيل الفراق الهادئ بين الأحياء والأموات. هذا نوع من الأخوية. العالم مسكون بالمبشرين ولكن القليل من الناس يعلمون بوجودهم"، وعبر تصديرات كل فصل بمقولات لسينمائيين ولكتاب معبرة وموحية وكأن الفصل هو إعادة شرح للتصدير، فمثلاً نجد تصديراً الفصل الثالث مفتتحاً بمقولة مارلين مونرو"إن مهنة ناجحة لأمر مذهل، ولكننا لا نستطيع أن نتغطى بها في الليل حينما نشعر بالبرد"، أو مقولة كريستيان بوبان"الحب هو ما نعانيه دائماً، حتى عندما نعتقد أننا لا نعاني شيئاً". وعبر إعادة اكتشاف ناتان لذاته - من خلال محاولته استعادة زوجته أو محاولة استعادة أمه التي فقدها بسبب أنانيته على رغم تضحيتها له تلك الخادمة الإيطالية المهاجرة في أميركا أو محاولته التقرب أكثر إلى ابنته، نجد غودريش يصر على إقناعه بالاعتقاد بالمبشرين، ويصبح ناتان أسيراً له بسبب فضوله وبسبب خوفه الدائم من الموت، وبالفعل ينجح الدكتور في محاصرة ناتان ويقدم له أكثر من دليل ليساعده على تصديق كلامه من دون نقاش كحادثة الرجل الذي ينتحر بإلقاء بالقفز من أعلى مبنى"امباير استيت"في نيويورك. هنا يعتقد ناتان أنه مقبل على الموت ويحاول إصلاح كل ما أفسده أخلاقياً عقب سنوات نجاحه المهني، ويكتشف أن الدكتور"غودريش"هو الذى أنقذه عندما كان في الثامنه من عمره، وأنه سجل له أحاديث رحلته في عالم الموت. وبسرد بديع يستمع ناتان إلى نفسه عندما كان طفلاً في خبايا الموت"... بينما كنت في النفق، تراءت لي حياتي قبل الحادثة ولمحت أناساً، أعتقد أنهم كانوا موتى. أناس موتى؟ ماذا كانوا يفعلون هناك؟ كانوا يساعدونني على اجتياز النفق". وتابع الطفل بصوت متزايد الرقة:"نوع أبيض، هادئ وقوي في آن". ناتان، أخيراً، يجد له شخصاً مقرباً هو الدكتور غودريش، هذا الدكتور الملغز، بالنسبة إلى ناتان، في سلوكه وفي تفكيره والذي يكن لأرملته كل الحب والتقدير ويحتفظ بكل رسائلها، ما يجعل ناتان يفتش داخله عن زوجته ورسائلها. لا ينسى غيوم أن يقدم زوجة ناتان وعائلتها الكثيرة الأسرار رغم شهرتها ونجاحها، بل تنقلب التصورات كافة رأساً على عقب، فنجد حماه الوقور الغني الناجح مدمناً كحولياً وله عشيقات. وأخيراً يكتشف ناتان أنه لن يموت ولكنه أصبح من المبشرين الذين يسهلون الموت للآخرين وأن طليقته هي أول من سيصحبه إلى الموت الهادئ وأنه منذ كان كان طفلاً رآها في نفق الموت هناك حيث منطقة الوسط ما بين الموت والحياة، رآها هادئة وتكتسي باللون الأبيض.