أكوامٌ مُكدَّسة من الكتب في مختلف المجالات، اكتست أوراقها باللون الأصفر المقترن بالزمن... وباعة جلس بعضهم على كرسي بلاستيكي متسخ فيما البعض الآخر يفترش الرصيف المتآكل... هكذا تبدو الحال في شارع الرشيد، أحد أهم شوارع بغداد، صباح كل يوم. الباعة ينادون على الكتب بأصواتهم الجهورية، يسألون كل سائر في الشارع الاقتراب من بضاعتهم والبحث عما قد يلزمهم من كتب، لكنهم قَلّما يرشدونك إلى كتاب بعينه أو ضالة تنشدها، ما يجعل السؤال عن أي عنوان أمراً غير مجدٍ، فالغوص في تلك الأكوام والبحث فيها هما السبيل الوحيد إلى إيجاد كل زبون ما يبحث عنه بنفسه، سواء كان كتاباً أو مجلة. الباحثون في كتب الأرصفة غالباً ما يكونون من القُرّاء القُدامى الذين يجمعون الكتب في مكتباتهم المنزلية الكبيرة، أو من طلاب الدراسات العليا الذين يغريهم الورق الأسمر، إذ يوحي إليهم أن معلومة ما قد تتعلق ببحوثهم تستقر بين السطور. كتب ثراث وتاريخ وسياسة وفلسفة، وحتى علم نفس، تتكدس بعضها فوق بعض بألوانها الباهتة، فيما تتزاحم الأيدى على أغلفتها بحثاً عن كتاب يمكن أن يساعد مقتنيه في بحث ما، أو يكون رقماً جديداً في مكتبة شخصية لقارئ قد لا يطلع على كل ما يملكه. الشيوخ والشباب، والنساء والرجال، الباحثون والمثقفون... الكل يتلاقى هنا. وعلى رغم الاعتقاد السائد بقلة إقبال النساء على القراءة في العراق، فإن الطالبات الجامعيات والقارئات يترددن على تلك المزادات. رجاء سلمان كانت تبحث باهتمام بالغ بين أكداس الكتب، وتتنقل مع زميلتين لها من كومة إلى أخرى، كالباحثة عن كنز تصرّ على اقتنائه، ومراراً قلّبَت الفتاة الكتيبات بين يديها، قرأت صفحة المحتويات قبل أن ترمي بها مجدداً إلى الكومة لتقلّب غيرها. تقول رجاء، التي تعد لشهادة ماجستير في التاريخ الحديث:"أبحث عن كتب تساعدني في إنجاز بحثي، وجئت إلى هذا المكان بعدما نصحني به أحد الزملاء، ثم اعتدت الحضور إلى هنا مرة أو مرتين في الأسبوع". الأسعار الزهيدة للكتب تجذب الكثيرين ممن يريدون الحصول على كتاب بسعر يناسب ميزانيتهم، فلا يبالون بغلاف ممزق أو صفحات مهترئة بعضها ربما يتفتت بين الأصابع لكثرة تقليب الزبائن فيها. أما الباعة، فيصرخون معلنين عن أسعار تنافسية تبدأ ب"ربع دولار"، وترتفع أحياناً إلى دولار. وتقام مزادات مماثلة في شارع المتنبي الشهير وسط بغداد، لكنها تقتصر هناك على أيام الجمعة، في حين تباع كتب الأرصفة في شارع الرشيد طوال أيام الأسبوع. عادل شريف، أحد باعة الكتب في الرشيد، ينادي بصوت عريض الخامة على مجموعة من الكتب الصغيرة التي امّحى بعض عناوينها بفعل مرور الزمن والتناقل من قارئ إلى آخر، ويقول:"أسعارنا تجذب الزبائن، وهي أقل بكثير أسعار الكتب في شارع المتنبي". لكنه يقرّ بأنه لا يعرف عناوين الكثير من الكتب التي يبيعها، وأن على الزبون أن يكتشف بنفسه ما تحويه دفّتا الكتاب.