حين تصرف دولة 280 مليون دولار تعويضاً لأحد أصحاب الكسارات عن الخسائر التي يقول إنه تكبدها نتيجة إقفالها، تشعر للوهلة الأولى بأن الدولة المعنية حريصة كل الحرص على أن لا"يؤكل"حق أحدهم في هذا البلد علماً أن وظيفة الكسارات الوحيدة هي قضم ما تبقى من جبال لبنان الخضراء، لتستعمل المواد في ما بعد لبناء أبنية يصعب على معظم اللبنانيين شراء شقق فيها نتيجة لأسعارها الباهظة. إلا أن حجب الدولة 30 بليون ليرة لبنانية 20 مليون دولار والذي يعد الموازنة السنوية التي تتكفل وزارة الشؤون الاجتماعية دفعها لمؤسسات رعاية المعوقين لأسباب مرتبطة بشحّ الأموال في الخزينة من جهة ونتيجة لخلافاتٍ سياسية من جهة أخرى، يعطي المفارقة أعلاه صورةً كافية للعقلية التي يحكم بها هذا البلد فتتحول المقولة الشهيرة"القانون لا يحمي الأغبياء"في لبنان إلى"القانون لا يحمي الضعفاء". 56 جمعية أضربت بعد انقطاع التمويل، و34 منها أغلقت، ما أدى إلى إرسال 9 الآف معوق إلى منازلهم، كانت تتكفل بهم مؤسسات رعاية المعوقين، زد على ذلك 7000 معوق آخرين في الشارع. منذ نحو أسبوع، أصدرت وزارة الشؤون الاجتماعية قراراً باستئناف دفع المبالغ المترتبة عليها. وذلك بعد انقطاع دام 5 أشهر، عانت المؤسسات خلالها أزمات مالية كثيرة، دفعتها إلى التوقف عن دفع مستحقات موظفيها في بادئ الأمر. واستمرت الحال على مدى ثلاثة أشهر إلى أن وصلت الأمور إلى طريق مسدود مع الوزارة فاضطر عدد كبير منها إلى الإقفال بعد خمسة أشهر. آليات عمل مؤسسات الرعاية أواخر خمسينات القرن العشرين، وخلال العهد الشهابي، شهدت البلاد تطوراً ملحوظاً على صعيد العمل الاجتماعي والمدني. وتوصلت مؤسسات الرعاية آنذاك إلى اتفاق مع الدولة، يقضي بأن تقدم الجمعيات كل ما يستلزم من أبنية وأراضٍ ومعدات وموظفين، على أن تؤمن الدولة الموارد المالية لتشغيلها. فاستمرت هذه الصيغة حتى يومنا هذا. الصيغة استمرت لكن البلد والدولة تغيرا. ورغم الحرب الأهلية التي استمرت 15 عاماً وحال التفكك، استمرت الدولة بدفع مترتباتها للمؤسسات، وفقاً لدراسات الكلفة المتوجبة. وفي منتصف التسعينات بعد انتهاء الحرب، أعدت وزارة الشؤون الاجتماعية آخر دراسة كلفة عام 1996، وظلت تعتمدها حتى 2009، رغم التغيرات المعيشية والاقتصادية التي طرأت، متعمدة إهمال دراسة"جديدة"لحظت تلك التغيرات عام 2004. وعليه، جاءت الأزمة الأخيرة كحصيلة تراكماتٍ من الإهمال والإجحاف بحق الفئات الأكثر تهميشاً. إقرار المبلغ اللازم واحتفال المعنيين بذلك، لم يحل دون كشف الأزمة الأخيرة عقبات كثيرة تواجه هذه المؤسسات، أولها أن المبلغ المقرر دفعه لا يمكن توفيره قبل 6 إلى 8 أشهر، وفق ما يقول رئيس مكتب التنسيق الدائم والمدير العام ل"الكفاءات"رئيف شويري. وسبب ذلك وجوب توفير آلية قانونية لدفع المبلغ، الأمر الذي يدخله في"المعمعة"البيروقراطية. ويقدم شويري احتمالين لتوفيره: الأول باقتطاعه من مبلغ 8900 بليون ليرة، والثاني بأخذ سلفة من الخزينة من موازنة 2013، إذا أقرت. وتبقى المشكلة الأهم عدم دفع المفعول الرجعي للأشهر الخمسة التي قطعت الدولة خلالها دفع التكاليف اللازمة للمؤسسات، ما اضطرها إلى أخذ قروض بغية تسديد نفقاتها. ويذكّر الشويري بأن الفوائد التي تترتب على المؤسسات نتيجة هذه القروض تبلغ 11 في المئة، قبل أن يضيف بشيء من التفاؤل:"النصف الملآن للكوب في خطوات الدولة هو نتيجة الضمانات الخطية التي وفّرتها الدولة لمؤسسات رعاية المعوقين التي بات في وسعها تقديم طلبات جديدة لقروض من البنوك". سياسة استراتيجية لدمج المعوقين شكل الإقفال القسري لمؤسسات الرعاية بالمعوقين، صدمة للبنانيين كثيرين بسبب التهميش والإهمال بحق هذه الفئة. ووصل الأمر إلى حد اعتبار كل هذا الإجحاف جريمة بحق المعوقين، فتُرجمت هذه الصدمة تحركات واحتجاجات تطالب بإعادة تأمين القليل مما"تتكرم به"الدولة عليهم. وحصل ذلك بالفعل. لكن، من جانب آخر، رأى بعضهم أن الجريمة الحقيقية التي تُرتكب بحق المعوقين، هي الطريقة الخاطئة في التعامل معهم على قاعدة الإحسان والرعاية بمفهومها السلبي، بدلاً من بذل جهود لدمجهم في الحياة العملية. وتقول المديرة التنفيذية لاتحاد المقعدين اللبنانيين، سيلفانا اللقيس، إن التعامل مع المعوقين على أنهم مرضى يجب تأمين العلاج لهم هو الجريمة الحقيقية التي ترتكب بحقهم. وتشرح أن المؤسسات التي انقطع تمويلها في لبنان، تكاد تكون معدومة في البلدان المتقدمة. أي أن مفهوم الرعاية والاهتمام يقتصر على عدد من المؤسسات التي تتعامل مع الحالات الأكثر تعقيداً، وأبرزها الحالات العقلية التي يصعب دمجها في المجتمع. وأما أصحاب الإعاقات الأخرى من المؤهلين للاندماج في الحياة العملية، فترتكب بحقهم سياسات العزل والفصل. ورصدت دراسة عينية 200 حالة في مؤسسة تعمل مع المعوقين وتقدم نفسها على أنها في مجال التعليم الأكاديمي أو التأهيل المهني. والهدف معرفة مدى ملاءمة أعدادهم مع نوعية عملهم. وأظهرت الدراسة أن 40 في المئة منهم كان أمياً، وبعضهم الآخر يعمل بلا مقابل في المؤسسات حيث يعيشون. ومنهم من يتقاضى أقل من الحد الأدنى، ومن يعمل في مهن غير التي تعلموها. وتقول اللقيس إن"هذه الدراسة أثبتت أن تأهيل المعوقين عبر المؤسسات الخاصة غير كافٍ على رغم صدور القانون وأن من حقهم قصد المدارس العادية. لكن المكشلة أن القانون لا يزال حبراً على ورق". عام 2000، أقر مجلس الوزراء القانون 220 الذي يضمن حقوق المعوقين، فعلى سبيل المثال كان كل معوق يطلب الالتحاق بمؤسسة تعلمية أو وظيفة، يَدرس طلبه مجلس الوزراء في حين أعطى القانون الأخير المعوق حقوقه، لكن على الورق لا أكثر، لناحية أنه لم يُطبّق عملياً. وتشرح اللقيس أنه في إمكان أي معوقٍ الانتساب إلى أي مؤسسة تعليمية، إلا أن البنى التحتية لا تتوافر في أي منها. وفي هذا الإطار، قدم الاتحاد دراسة شاملة لكلفة تجهيز المدارس كافة بالبنى التحتية لتمكينها من استقبال المعوقين خلصت إلى أن يدفع كل لبناني ضريبة قيمتها 165 ليرة فقط مدة 12 سنة، لتجهيز المدارس. وعليه، وافق وزير التربية حسن منيمنة على أدراجها في الموازنة التي لم تُقر. إضافة إلى ذلك لم يحصل تطوير حقيقي للمناهج التعليمية، بما يتلاءم مع حاجات المعوق. وتعطي اللقيس حال إحدى زميلاتها نموذجاً. فقد اضطرت هذه الزميلة المقعدة إلى التخلي عن دراسة هندسة الديكور بعد 3 سنوات، لأنها لا تتمكن من إنهاء فرضها ومشاريعها في الوقت المحدد، وظروفها لم تراعَ. ولكشف عدم مبادرة الدولة إلى الالتزام العملي بالقانون الجديد، تشرح اللقيس أن اتحاد المقعدين قدم عرضاً بإعادة تأهيل 80 معهداً مهنياً، وتدريب طواقمها للتمكن من استقبال المعوقين. إلا أن الجواب كان دائماً أن وزارة التربية ومعها أصحاب المهنيات لا يمتلكون الصلاحيات الكافية لإجبار المعلمين على المشاركة في ورش التدريب. التفاوت في مقاربة المشكلة والأزمة الحقيقة التي يعانيها المعوقون، تفرض على الجهات التي تقدم نفسها على أنها معنية في رعايتهم من جهة، والتركيز على المطالبة بحقوقهم المشروعة من جهة أخرى، من خلال التطبيق الحقيقي لقانون مقر أصلاً، تحتم على الطرفين إيجاد جسر تواصل لتأمين المصلحة الأمثل لهذه الفئة. وهو الامر الذي دعا إليه اتحاد المعوقين، في بيان أصدره في 17 الجاري، ل"الكف عن تجاهل جوهر المشكلة والأزمة". وحض البيان على تضافر الجهود في وضع سياسات دامجة، تبدأ بمراجعة نقدية، تفضي إلى تعديل أنظمة العمل والإنفاق والإدارة، وبناء دولة المواطن الرشيدة والعادلة. ويقول شويري إن عمل الجمعيات يقتصر فقط على العمل الاجتماعي والرعائي والحرص على الابتعاد من السياسة والشعارات، لما قد تسببه من مشاكل على المعوقين هم بغنى عنها، في حين تشير السنوات الأخيرة وتراجع اهتمام الدولة والأزمات المتلاحقة التي تعصف بالمؤسسات والبلد، إلى أن البحث عن سبل أخرى، يكون بالضغط السياسي والمطلبي جزءاً منها، قد يساهم في تحسين أوضاع المعوقين على المدى الطويل.