"العكازان أكثر متانة من البشر"، هو شعار إيمان بديع 38 عاماً في حياة أمضت معظمها بحثاً عن الاستقرار والاستقلال المادي عن أخوتها. ايمان الحائزة شهادة TS في المحاسبة والكومبيوتر، الى جانب إجازة في اللغة العربية وآدابها، تسعى بكل ما تملك من وسائل للحصول على عمل بعد أن خاضت مجالات عدة لفترات متقطعة. عملت إيمان لست سنوات كمؤهلة اجتماعية في مشروع لتأهيل المعوقين ولم تتوقف على رغم الدخل الضئيل الذي كانت تناله الاّ بعد اقفال المركز، وعملت بعدها في مكتب للمحاسبة حيث أثبتت جدارتها وكفاءتها واضطرت مرة أخرى لترك مكان شعرت فيه بالاحترام ولمست المعاملة الجيدة بسبب تراجع احوال المكتب. عدم تمكنها من العثور على عمل ليس الوحيد الذي يولّد الأسى في نفس إيمان وإنما نظرة المجتمع إليها. في إحدى المرات التي قصدت فيها إيمان مكتباً للعمل طالعها صاحب المكتب "هل ترتدين التنورة؟ على الفتاة التي تعمل لدي أن تهتم بملابسها بالدرجة الأولى"، وسارع الى التوضيح "اعتذر لا وظيفة لك عندي"، عدم أهلية إيمان لهذه الوظيفة تكمن في عدم تمكنها من ارتداء تنورة بسبب الجهاز في قدميها الذي يساعدها على السير بسبب الاعاقة الجسدية التي أصيبت بها جراء شلل الأطفال. "التنورة" ليست العائق الوحيد الذي وقف في وجه إيمان فمسح خبراتها وكفاءاتها، إذ أن خوف المعنيين من أن "ينزعج الطلاب" وهم ينظرون إليها أقفل في وجهها أبواب المدارس التي طرقتها حاملة شهاداتها، ومدارس أخرى رفضتها بصيغة أخرى: "الطلاب غير معتادين على الاعاقة، ولا نريدك أن تتعرضي لموقف أو لكلمة تزعجك من أحد الطلاب". وعندما طلب أحد المستشفيات محاسبة ذات خبرة تحدثت إحدى صديقات إيمان مع المسؤولة عن شهادات إيمان وخبرتها، فذهبت مرة أخرى مع شهادات خبرتها إلاّ أنها فوجئت بجواب فظ من المسؤولة: "لكن صديقتك حدثتني عن فتاة غيرك". لا يصنّف ما تعاني منه إيمان شذوذاً عن القاعدة إذ أن آلاف المعوّقين يعانون من المشكلة ذاتها. ندى سلمان 28 عاماً خضعت لدورات عدة في أعمال السنترال والخياطة والكومبيوتر، كما أنها خاضت ميدان العمل في تلك المجالات، تبحث اليوم عن عمل بعد أن عملت لمدة خمس سنوات في شركة سعودية تركتها بعد أن أقفل فرع بيروت، ومما تذكره ندى عن معاناتها في البحث عن عمل: "توجهت الى إحدى الشركات التي تعرض وظيفة تتناسب مع مهاراتي، وعندما فتحت لي إحدى الموظفات الباب ورأت حالتي أقفلت الباب في وجهي قائلة: لم نعد بحاجة الى موظفين". تروي ندى هذه الحادثة مبتسمة باستهزاء إذ أنها باتت "معتادة على أمثال تلك الموظفة"، وتشكر ندى الله على أنها ستبدأ العمل في شركة لتعليب الهدايا "أخذت الشركة على عاتقها توظيفي مع فتاة أخرى تعاني أيضاً من شلل الأطفال، بعد أن حضر ممثل عنها المؤتمر الأخير". "اكتشف قدرة: عالم من اكتشاف المواهب والقدرات"، عنوان المؤتمر الذي تكلّمت عنه ندى وهو مشروع مشترك بين ناديي روتاري وروتراكت بيروت واتحاد المقعدين اللبنانيين بالتعاون مع جمعيات أهلية أخرى. وتشرح ريم دادا رئيسة نادي روتراكت "الهدف من وراء هذا المشروع العمل على تأهيل المعوّقين، ليصبحوا جاهزين للانخراط في سوق العمل، وتعريف المجتمع بأهمية العمل مع هذه الشريحة". وتضيف دادا "انطلاقاً من فكرة أن الجميع معرض لهذا النوع من الحوادث والاعاقة نعمل على دمج المعوّقين مع شرائح المجتمع الأخرى". وتوضح "إضافة الى هذا المشروع المشترك، قمنا بالعمل على نشر التوعية في المناطق عبر المحاضرات والمؤتمرات، ووفرنا للمعوّقين دورات تدريبية تؤهلهم التعامل مع أرباب العمل، لا سيما في الأيام والمقابلات الأولية، وتشتمل على تعليمهم كيفية اجراء المقابلة الأولى، وطرق كتابة سيرتهم الذاتية للتعريف بأنفسهم وبمهاراتهم، إضافة الى دورات التدريب على الكومبيوتر والانترنت التي قمنا بها بالتعاون مع جمعية سردار". لم تحقق هذه المشاريع حتى اليوم الغاية المنشودة منها، ولكنها خطوة على طريق الألف ميل إذ لا يزال العديد من المعوّقين يعانون من عدم تقبّل المجتمع لهم أو استغلالهم من المحيطين، وهذا ما حصل مع ايهاب أيوب 28 عاماً، "عملت في مطبعة أحد أقربائي، ولكنه في نهاية الشهر أراد أن يعطيني 100 دولار أميركي بدل أتعاب مستغلاً حاجتي للعمل، فقدمت استقالتي ولا أزال أبحث عن عمل منذ 1999". وابراهيم الخطيب 34 عاماً "كلما رأوا العكازين، سارعوا الى القول: نعتذر، لسنا بحاجة الى عمّال، ولا أزال على هذه الحال منذ ثلاث سنوات". تعتبر مثل هذه الحالات حافزاً رئيساً في استمرار الجمعيات الأهلية في العمل من أجل تحسين أوضاع المعوّق ومساعدته في انتزاع حقوقه، وهذا ما تشدّد عليه تانيا حلو المدير العام لجمعية سردار "هدفنا تأمين الاندماج الاجتماعي للفئات المهمّشة من أجل تحسين أوضاعها". وتوضح حلو "من هنا جاءت فكرة مشروع "الوصول الى المعلومات" وهو برنامج يهدف الى تمكين المعوّقين جسدياً من استخدام الكومبيوتر والانترنت من خلال مدرسة جوّالة تقوم بالتدريب على المعلوماتية"، ويمتاز هذا المشروع الذي يجري بالتعاون مع ناديي روتراكت وروتاري واتحاد المقعدين اللبنانيين بأنه يتوجه الى المعوّقين في محيطهم ويتيح لهم فرصة امتلاك المهارات الضرورية بغية الوصول الى حقهم بالتوظيف. وقد زودت هذه المدرسة النقالة بمنحدرات و"درابزين" لتسهيل استخدام الكراسي المدولبة. وأتفقت ريم دادا وتانيا حلو على أن هدف هذه المشاريع تحضير المعوّق ليكون على أتم استعداد مع بدء العمل بالقانون رقم 220/2000 الصادر عن مجلس النواب اللبناني في أيار مايو من عام 2000. وينص هذا القانون على ضمان حقوق المعوّق الأساسية، ويرتكز إلى تكافؤ الفرص والحق بالمشاركة الى جانب حصوله على كل الخدمات الاجتماعية اللازمة. ويمنح القانون رقم 220 المعوّقين حق العمل، ويعزز فرصهم بالعمل من خلال الزام الشركات باستخدامهم. وتحدد المادتان 73 و74 منه نظام كوتا للمعوّقين الذين يجب استخدامهم في القطاعين العام والخاص وتنص على تكريس 3 في المئة على الأقل من اجمالي عدد الوظائف لهم. ويلحظ القانون مادة تفرض عقوبة على الشركات التي لا توظف معوّقين، تبلغ قيمتها ضعفي الحد الأدنى للأجور عن كل معوق عاطل عن العمل. وفي المقابل اذا وظفت الشركة عدداً أكبر من المعوّقين استفادت من خفض ضريبة الدخل بحسب الحد الادنى لكل موظف معوّق اضافي يصرح عنه لوزارة الشؤون الاجتماعية. وتؤكد رئيسة اتحاد المقعدين اللبنانيين سيلفانا اللقيس أن العراقيل أمام تطبيق هذا القانون لا تزال كثيرة وتكمن بخاصة في عدم الجدية في ملاحقته من وزارة العمل والمعنيين. وترى اللقيس أن المجتمع لا يزال غير مؤمن بقدرات المعوّق على تسلم المسؤوليات، وتؤكد أن لتوظيف المعوّق منافع كثيرة أبرزها: "يعتبر المعوّقين الأفضل من خلال سجلات الحضور، الى جانب أنهم يبقون مدة أطول مع أرباب عملهم، كما أنهم أقل عرضة للحوادث خلال العمل"،. وتضيف "المعوّقون يملكون قدرة عالية على تطوير مهاراتهم الذاتية، ووجودهم داخل شركة معينة يكسبها سمعة أفضل وتأثيراً ايجابياً في معنويات الموظفين الآخرين وحماستهم"... وأثبتت تجربة بعض المعوّقين العاملين نجاحاً بارزاً لهم في الميادين كافة التي دخلوها بمجرد إعطائهم الفرصة ومنهم عمر نجم الدين 27 عاماً الحائز اجازة في علوم الغذاء، إضافة الى ماجستير في ادارة الاعمال ويعمل منذ تخرجه في احد المصارف حيث يشغل منصب مسؤول عن قسم العمليات في المصرف. ويعطي عمر دروساً في احدى الجامعات الخاصة، ويعمل أيضاً مستشاراً لمستشفى. عمر الذي يعتبر عمله حقاً له لما يتمتع به من مهارات يهاجر قريباً الى كندا بغية الحصول على دكتوراه في العلوم المالية. ويُعتبر موسى سعد 39 عاماً، وهو متأهل وأب لثلاثة أطفال، مثالاً واضحاً على تأقلم المعوّق مع سوق العمل على رغم الصعوبات التي تعترضه، فهو يعمل محاسباً في سوق خضار، إضافة الى بعض الأعمال الحرة التي يمارسها. الا ان موسى لا يزال يحلم بأن يدخل الجامعة التي اجبر على تركها مرتين، الأولى عند محاولته دراسة الحقوق والثانية دراسة اللغة الانكليزية وآدابها وذلك بسبب عدم توافر التسهيلات الهندسية للمعوّقين داخل حرم الجامعات اللبنانية. ومريم زرقط 35 عاماً استطاعت التغلّب على اعتراضات المجتمع عليها فافتتحت متجراً لبيع الألبسة الشرعية، وتدير أيضاً محلاً للاتصالات الدولية والانترنت. وترى سيلفانا اللقيس ان انخراط المعوّق في سوق العمل يتطلب تعاوناً فعلياً من المعنيين الرسميين "عندما طلبنا رعاية رسمية لمؤتمر اكتشف قدرة، جاءنا الرد أن تطبيق الكوتا التي نطالب بها يؤثر سلباً في الاستثمار في البلد". وتضيف "نعاني من خرق صريح للقانون، إذ أن صندوق التعويضات الذي ينص عليه قانون 220 يجب أن يكون في وزارة العمل في حين أن هناك توجهاً لوضعه في وزارة المال وهذا ما سيشكل عائقاً أكيداً في وجه أي تقدم". وعن هذا الموضوع يعلّق مدير عام وزارة العمل رتيب صليبا "المراسيم الصادرة تنص على أن تتولى وزارة العمل عمليتي القبض والدفع للمعوّقين، الا أن وزير المال أصدر قراراً بضم الصندوق لوزارته"، ويضيف "رفعنا شكوى الى رئاسة الوزراء لأن هذا يعتبر خرقاً صريحاً للقانون ولنقل الصندوق لا بد من تعديل القانون". ويقول صليبا ان لا مانع لديه في حال عُدّل القانون لجهة نقل الصندوق الى وزارة أخرى المهم الآّ يصبح الأمر "حجّة للتملّص من التطبيق".