قانون الانتخابات أحد أعمدة بناء الدولة الديموقراطية والركن الأساس لها والمؤشر الصحيح إلى وجودها وممارستها، فهو الذي يحدد آلية تمثيل المواطن وصحة إيصال صوته إلى مراكز القرار السياسي الذي يدير الدولة اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ومجمل العمل الحكومي بما فيه الرئاسة. وقد يخطر ببال المطالبين بالديموقراطية أن هذا القانون هو تفصيلي وأن من المهم أن تجرى انتخابات وتصويت تحت الرقابة وهذا كاف ليعبّر عن أن العملية الديموقراطية بخير. إن المسألة ليست بهذه البساطة والواقع العملي لتطبيق التجارب الديموقراطية تخبرنا بغير ذلك. فالنظرية التي يعتمد قانون الانتخابات عليها وطريقة التصويت والتمويل وشروط الانتخاب والترشّح والإشراف والرقابة لها الدور الأساس والرئيس في تحديد صحة ممارسة الديموقراطية وجدوى عملها وصحة التمثيل. كما لها دور كبير إما في تمتين وحدة المجتمع وزيادة تماسكه وتقدم الأهداف العامة بخدمة كل الوطن للمرشحين والأحزاب أو بذر الفرقة بين مكونات المجتمع مناطقياً أو قومياً أو دينياً وتقدم المصالح المناطقية والفئوية على أهداف المرشحين والكتل. والتمويل وتحديد شروطه والرقابة عليه تمنع رؤوس الأموال من التحكم بالعملية الانتخابية وتحديد نتائجها إما بشراء الأصوات في المناطق الفقيرة أو باستخدام الإعلام بكثافة كبيرة ما يحرم الآخرين من إظهار برامجهم وتطلعاتهم. وشروط الترشّح تحدد نوعية ممثلي الشعب، هل سيكونون من المقبولين شعبياً بصرف النظر عن مستوى ثقافتهم وتحصيلهم العلمي أم يجب أن تتوافر شروط تفرض ممثلين للشعب يملكون الحد الأدنى من الثقافة والتعلّم ما يمكنهم من القيام بواجبهم بالدفاع عن مصلحة ناخبهم في شكل علمي وصحيح. كما أن تحديد طرق التصويت التي لا تسمح بحدوث تزوير إلا بأضيق نطاق، ضروري جداً لصحة العملية الانتخابية. وتأتي أخيراً مسألة الإشراف والرقابة على العملية الانتخابية وهي حجر أساس في صحة مسارها، فالإشراف يجب أن يكون قضائياً بالكامل، كما يتوجب السماح بالرقابة الأهلية والدولية من مؤسسات مختصة بهذا النوع من العمل ولديها الخبرة بتقويم الأداء. إن كل هذه الشروط مجتمعة هي التي تحدد صحة العملية الديموقراطية، وفقدان أي من هذه الشروط يؤثر في صحة العملية وجدواها ونتائجها. ولعل المحدد الأساس هو النظرية التي يعتمدها قانون الانتخابات وتتمثّل النظريات الانتخابية باثنتين هي النظرية التي تعتمد الدائرة الفردية، وتقسم إلى قسمين. دائرة فردية ضيقة ودائرة فردية موسعة. والنظرية النسبية وتقسم إلى قسمين طريقة نسبية ببرامج محددة الأشخاص وطريقة نسبية للبرامج من دون تحديد الأشخاص. هناك أولاً النظرية الفردية، وهي أن يقوم الناخب باختيار المرشحين لأشخاصهم وما يمثلون بصرف النظر عن وجود برنامج انتخابي أم لا. أي أن ثقة الناخب تتجه للمرشح بشخصه تحديداً، وهذه الطريق يمكن أن تكون تعتمد الدائرة الضيقة، أي أن تقسم الدوائر الانتخابية إلى دوائر جغرافية صغيرة وفق عدد سكانها بحيث تنتخب كل دائرة نائباً واحداً أو نائبين، ومحاسن هذه الطريقة أن النائب يكون ابن المنطقة ومتواصلاً ومعروفاً شخصياً من السكان وبالتالي يكون النائب ممثلاً حقيقياً لأبناء المنطقة. كما أن تنوع مكونات المجتمع القومية والدينية تنعكس في شكل أكثر دقة في مجلس النواب. أما مساوئها فتتمثل بأنها تعزز الشعور الطائفي أو الديني أو القومي، وتنحدر المطالب الانتخابية لمطالب مناطقية صغيرة على مستوى إدارة محلية وليس على مستوى مجلس نواب. كما أن هذه الطريقة تحتاج إعداداً كبيراً بتنظيم جداول انتخابية لأبناء المناطق وحصر عملية الانتخاب لكل منطقة فيها، ما يكلف الناخبين أعباء الانتقال وبالتالي يمكن أن تنعكس على قلة المشاركة. وهناك الدائرة الفردية الموسّعة، وهي تعتمد الانتخاب على أساس الأشخاص وما يمثلون كما السابقة ولكن بحيّز جغرافي واسع بحيث يتم تقسيم الدوائر الانتخابية على أساس المحافظة. وتمتاز عن الطريقة السابقة بأنها تؤسس لنشوء تكتلات ولوائح انتخابية شخصية، وترفع مستوى المطالب الانتخابية إلى مستوى أعلى ولكن لا ترقى لمستوى المطالب السياسية العامة أو التحالفات السياسية. أما من مساوئها فإنها إضافة إلى حاجتها إلى إعداد كبير كما الطريقة السابقة فإنها تسمح بتغليب أحد مكونات المجتمع على الآخر. كما أن المساحة الجغرافية الكبيرة وعدد السكان الكبير يمنعان التواصل الشخصي بين الناخبين والمرشح ما يجعل الاختيار عشوائياً وغير حقيقي إذا لم يكن هناك برامج سياسية كما يبرز دور المال الانتخابي في شكل كبير ومؤثر في العملية باستخدامه الإعلان والدعاية والمهرجانات الانتخابية وشراء الأصوات ما يعني فشل المرشحين أصحاب الإمكانات المادية البسيطة بصرف النظر عن صحة مطالبهم وتمثيلهم، كما أن الطريقتين لا تسمحان للسوريين خارج البلاد بالمشاركة. وتعتمد النظرية النسبية على أن كل البلاد دائرة انتخابية واحدة ويمكن الناخب أن يدلي بصوته في أي مكان موجود فيه داخل أو خارج سورية يكون المرشحين كتل سياسية منفردة أو متحالفة تطرح برنامجها على الناخبين ويرمز لكل مجموعة باسم أو رقم ويتم الانتخاب وفق البرنامج. وهذ النظرية تشجع على قيام التكتلات وترفع مستوى المطالب الانتخابية إلى المستويات السياسية العليا بوضع برامج لاستلام السلطة وتنفيذ هذه البرامج، كما أنها تتجاوز النزعات الطائفية أو الدينية أو القومية لمستوى الوطن كله وتسمح لكل السوريين بمن فيهم من هو خارج البلاد بالمشاركة وتخفف قدر الإمكان من محاولة تغييب أي مكون من مكونات المجتمع لاضطرارها لجمع كل المكونات من أجل كسب مزيد من الأصوات بما فيه المساواة بين المرأة والرجل، وهذه الطريقة هي الأنضج والأكثر تطوراً بين النظريات الانتخابية ولكنها تحتاج إلى مناخ مستقر ونضوج للممارسة الانتخابية من جهة وإلى مناخ سياسي عريق للأحزاب وتاريخها. أما مساوئها فإنها يمكن أن تمنع طاقات فردية وأشخاصاً مميزين من الترشح والفوز إذا لم ينضموا لإحدى الكتل. ويمكن ممارسة النظرية النسبية عبر طريقين إما إعلان الكتل السياسية المتحالفة لبرامجها ومرشحيها مباشرة أو إعلان البرامج من دون أسماء النواب وبعد تحديد نسبة الفوز وعدد نواب كل كتلة يتم تسمية النواب من قبل الكتل. ويمكن الكتل تغيير مندوبيها لدى البرلمان أثناء الدورة النيابية إذا كان أداؤه غير جيد فوجوده بالبرلمان مرتبط بكونه مندوباً لكتلة تمثل الشعب وليس ممثلاً عن الشعب. بالنسبة للوضع بسورية ونظراً إلى التنوع الكبير لمكونات المجتمع وعدم نضوج الممارسة الانتخابية بعد عقود من غياب أي عمل سياسي. وعدم تكون ونشوء أحزاب لديها الخبرة والتاريخ بالعمل الانتخابي لغيابها عن ذلك عقوداً طويلة، أعتقد أنه من الأفضل ولمرحلة قصيرة ? دورة انتخابية أو دورتين ? اعتماد نظرية مشتركة بين الدائرة الفردية والنسبية، بحيث يتم اختيار نصف أعضاء مجلس النواب على أساس الدائرة الفردية الضيقة ونصفهم الآخر بطريقة النظرية النسبية. وبذلك نكون أعطينا تمثيلاً حقيقياً لكل المكونات في المجتمع من دون تغييب أحد وفي الوقت نفسه نبني أسساً جديدة لحياة سياسية حزبية راسخة تمارس فيها الديموقراطية من أجل وحدة وكيان المجتمع. * رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانوني