المقدم المصري أياد إمام كان إلى وقت قريب، ضابطاً نموذجياً. فهو في الأربعين من العمر ووالد لثلاثة أطفال، خدم في سلاح الجو. شغل منصب أستاذ في الأكاديمية العسكرية وكتب دليلين عسكريين يدرّسان في المدارس العسكرية. وفي نيسان أبريل الماضي، كان من المفترض أن يسافر للمشاركة في دورة خاصة في الولاياتالمتحدة. لكنه قبل أيام من توقيفه، اتصل بأخيه أيمن من رقم هاتفي غريب، وأبلغه أن هاتفه مراقب. سأله أيمن:"ماذا فعلت... هل الموضوع متعلق بالثورة"؟"لم أفعل شيئاً... نعم، نوعاً ما"، أجابه. ومثل أياد مع 22 من زملائه أمام محكمة عسكرية. وبعض هؤلاء اعتُقل في 9 نيسان المنصرم 2011 في ميدان التحرير، وبعض آخر اتُهم بالاتصال بالمتظاهرين والارتباط بهم على"فايسبوك". وحاول المقدم إخفاء أغلال يديه عن أخيه، وبدا أنه فقد وزناً، قال والدمع في عينيه:"لست خائناً... لسنا خونة". وعشية الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي تولى القادة العسكريون تنظيمها، خرجت تظاهرات احتجاج عنيفة شارك فيها عشرات الآلاف. وتحدى المشاركون"ديموقراطية"العسكر، وطعنوا بحكمها وبنأي المؤسسة العسكرية بنفسها عن المساءلة المدنية. يومها، حاول المتظاهرون إحياء الثورة وسط وابل من القنابل المسيلة للدموع والزجاجات الحارقة والحجارة. وطالب الشباب بتنحي المشير محمد حسين طنطاوي. لم يتدخل حلفاء مصر في النزاع بين العسكر والمدنيين أو في ترجيح كفة طرف على آخر. ودعا الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى نقل السلطات إلى حكومة منتخبة فحسب. وطوال عقود، درجت واشنطن على تقويم أداء الجنرالات المصريين بالاستناد إلى مواقفهم من السلام مع إسرائيل ومكافحة الإرهاب. ويقول مسؤول حكومي في عهد مبارك عن الجنرالات متهكماً:"بيكرهو إسرائيل، وبحبو الفلوس". ويلقب عدد من المسؤولين الغربيين المشير بالمدير العام للعسكر. فهو ليس وزير الدفاع فحسب، بل وزير الإنتاج العسكري، المسؤول عن مصانع تنتج مختلف الأشياء من المعكرونة إلى الدبابات، وتتولى شق الطرق وبناء مرافق الاستجمام. وتجني المصانع هذه ملايين الدولارات في معزل من المساءلة الحكومية. والحق أن ما يشغل قادة الجيش المصري في مرحلة الاضطراب الاجتماعي هو ولاء الجنود البالغ عددهم حوالى نصف مليون، منهم 200 ألف مجند. ولا يستهان بأهمية المسألة هذه، وهي بالغة"الحساسية". فكثر يخشون ذكرها أو تناولها. ويسجن المدونون الذين يوجهون سهام المساءلة أو النقد إلى العسكر. ولا أحد يعرف ما إذا كان الجنود سيطلقون النار على المتظاهرين لو أمروا بذلك. لذا، أوكل الجيش قمع المتظاهرين إلى رجال الشرطة والبلطجية المأجورين. ووفق دراسة أعدتها جامعة ماريلاند، يرى 43 في المئة من المصريين أن المجلس العسكري"يسعى إلى عودة عقارب الساعة إلى وراء، أي إلى ما قبل الثورة، أو على الأقل، إلى إبطاء عجلة الثورة وشلها". والمشهد السياسي المصري صار بالغ التعقيد. فقبل عام، انصب الغضب الشعبي على شخص واحد، حسني مبارك، بينما اليوم يتوزع غضب المتظاهرين على عدد من الشخصيات السياسية. ويرى كثر أن العسكر تدخلوا وملأوا الفراغ يوم لم يستطع المتظاهرون، وهم يفتقرون إلى التنظيم والقيادة، حسم النزاع مع الرئيس السابق. والحق أن المجلس العسكري سعى في بث الشقاق في صفوف المعارضة، وتجنب بروز معارضة تجمع على هدف واحد. ووفق الأستاذ الجامعي الأميركي، روبرت سبرينغ بورغ، وهو خبير في الشؤون العسكرية المصرية، يرمي المجلس إلى إرساء نظام سياسي جديد يرتضي فيه ألا يتولى الحكم ويصدع بألا يُسيطر هو على مقاليد السلطة من غير أن يُحكَم أو أن تُقيد يده. وتدور الشبهات حول سعي جماعة"الإخوان المسلمين"إلى إبرام صفقة مع المجلس العسكري تقر بسلطة العسكر في مقابل عدم عرقلة بلوغها الحكم إذا فازت في صناديق الاقتراع. ولا يخفى على أحد أن كبار قادة الجماعة لم يؤيدوا تظاهرات الاحتجاج. ولم يخبُ تأييد العسكر في بعض أوساط المتظاهرين نتيجة الإحباط واليأس من استمرار فصول الاضطراب والفوضى. وعدد من المتظاهرين يولي ثقته العسكريين الشباب، وليس الجنرالات. ويروي محمد علام 35 عاماً أنه شاهد عملية قمع الضباط المعارضين في ميدان التحرير ليلة 8 نيسان الماضي وفجر التاسع منه. فعشرات الضباط اقتربوا من المتظاهرين، وبدأوا الكلام معهم. وقرر حوالى عشرين منهم تمضية الليل في ميدان التحرير. وعند الثالثة والنصف فجراً، أُطلق وابل من الرصاص في الهواء، وحاصرت قوى الأمن خيم المعتصمين وتوجهت إلى خيم الضباط، واعتقلتهم. واحد من هؤلاء هو الملازم أول محمد وديع، وهو ضابط مغاوير في السادسة والعشرين من العمر، دخل السلك العسكري قبل 9 أعوام. تروي والدته أنه قصد ميدان التحرير في 8 نيسان وهو يرتدي قميصاً وسروال جينز ويرفع شعار المغاوير. وكانت مجموعة من زملائه في الأكاديمية العسكرية على منصة الاحتجاج في الميدان، فانضم إليها، وحمل المايكروفون وبدأ يتكلم عن شهداء الثورة وإفلات المسؤولين عن موتهم من العقاب. وهو رغب في طمأنة الشباب في الميدان، وإبلاغهم أن الأمور ستتغير وأن الديموقراطية آتية، تقول والدته. وفي تلك الليلة، اعتقل وديع في منزل والدته. فصول الثورة في مصر لم تنتهِ، والفصل الحاسم لم يبدأ بَعد. ويبدو أن تذليل عقبة مبارك كان الجزء الأيسر من الثورة المصرية. ولا يزال التحدي الأكبر هو إبعاد العسكر ورموزهم عن الحياة السياسية. * مراسلان، عن"نيوزويك"الاميركية، 5/12/2011، اعداد م. ن.