انشغل الرأي العام اللبناني بنبأ استقالة الوزير من التيار العوني الوطني الحر من موقعه على رأس وزارة العمل، وتحولت مسألة بقاء الرجل في الحكومة وتخليه عن موقفه الرافض توقيع مرسوم بدل النقل أو خروجه منها، إلى مادة للسجال، وضعت ائتلاف 8 آذار وحكومته في مهب الريح. استقالة وزير من منصبه، ليست أمراً اعتيادياً في لبنان والعالم العربي، خصوصاً حين تكون بواعث الاستقالة على صلة بالمبادئ والقيم والأخلاق والأفكار، فهذه باتت عملة نادرة في عالم السياسة العربية...وزاد الأمر تشويقاً وإثارة، حرص خصوم"التيار العوني"على تتبع أزمة نحاس لسبب إضافي يتعلق بالرغبة في اختبار قدرة زعيم التيار العماد ميشال عون على التمسك بمواقفه وشعاراته، والذود عن رجاله وأنصاره وعدم التخلي عنهم. لقد كتب الكثير في وصف شخصية الوزير المستقيل، واستحضرت سيرته وخلفياته اليسارية...فهو"آخر الرجال المحترمين"وهو"شهيد القيم والمبادئ والأخلاق"وهو"ضحية انتهازية الساسة وتخلي أمراء الطوائف"إلى غير ما هنالك. والحقيقة أنني ما كنت لأتناول استقالة الوزير نحاس في حمأة الأحداث والتطورات الفلسطينية والعربية، إلا لأن الوزير المرتحل قرر في ربع الساعة الأخير لولايته الدستورية، توقيع المرسوم 62 الخاص بتنظيم عمل الفلسطينيين في لبنان، فأنا لا أرغب في التعليق على مناكفات السياسيين اللبنانيين ومماحكاتهم، ولست أطمح بإضافة حرف واحد لما ورد في مئات المقالات والتغطيات التي تناولت المسألة ومن مختلف الزوايا ووجهات النظر... وكل ما في الأمر أن هذا المرسوم على أهميته، ضاع وسط غبار الجدل المحتدم وتصفية الحسابات. ووفقاً للمرسوم المذكور، سيكون بمقدور اللاجئين الفلسطينيين ابتداءً من 22 شباط فبراير2012 الحصول على إجازة عمل في لبنان. صار بإمكان الفلسطينيين الحصول على إجازة عمل من دون عقد عمل، ولمدّة 3 سنوات. صار بإمكانهم العمل في كل الأعمال التي ظلت محصورة باللبنانيين فقط باستثناء الأعمال والمهن المنظّمة بقوانين حيث يتطلب عملهم فيها صدور قوانين جديدة خاصة. على أية حال، لقد رفع المرسوم 62 عن أكثر من 400 ألف من اللاجئين الفلسطينيين أوزار تمييز عنصري بغيض عانت منه أشد المعاناة، ثلاثة أجيال منهم، حتى بات حصول الفلسطيني على تصريح عمل، مهمة أشد تعقيداً من حصوله على الجنسية الأميركية، ولم تبق القوانين العنصرية السابقة للفلسطيني سوى وظيفة قطف الزيتون والبرتقال، أما بقية الوظائف فكان الحصول عليها، دونه خرط القتاد. والمأمول أن يواصل الوزير الجديد سليم جريصاتي ما بدأه سلفه على هذا الطريق، وأن لا يضيع المرسوم الجديد في غياهب الترك والنسيان والبيروقراطية، وأن لا تتبدد حقوق الفلسطينيين المدنية، الاقتصادية الاجتماعية، في دهاليز المناكفات والمماحكات البنانية التي لا تنتهي. على أية حال، لقد برهن الوزير اليساري، سابقاً ولاحقاً، عن بؤس المقولة الدارجة في وصف اليسار: من لم يكن يسارياً في صغره لا قلب له، ومن بقي يسارياً في كبره، لا عقل له. الوزير شربل نحاس، برهن بالملموس، أنه صاحب عقل وقلب كبيرين، في صغره وكبره، على مقعد الوزارة كما في خنادق الرفاق وصفوفهم. فتحية له وهو يوقع المرسوم 62 وهو يرفض التوقيع على"بدل النقل". تحية احترام وعرفان لرجل وضع المبادئ والقيم في مكانة متقدمة على ترف البروتوكول وإغراء المنصب وبريقه. تحية لرجل احتفظ بلغته بكل مفرداتها، بعد أن عوّدنا كثيرٌ من الرفاق على نسيان لغتهم ومفرداتهم، ما أن تتاح لهم أول فرصة لنقل البندقية من كتف إلى كتف أو الانتقال من خندق إلى خندق. عريب الرنتاوي - مركز القدس للدراسات السياسية - بريد إلكتروني