فلاديمير بوتين يستعد لخوض السباق نحو مقعد الرئاسة للمرة الأولى. لم يكن ذلك"الخبر"مجرد دعابة، ولا نتيجة خطأ غير مقصود تجاهل صاحبه أن بوتين قضى في الكرملين ثماني سنوات في ولايتين رئاسيتين متتاليتين، قبل أن يدفع أقرب أصدقائه ديمتري مدفيديف لشغل كرسي الرئاسة أربع سنوات، ظل خلالها الأول سيد الكرملين المسيطر على مقاليد الحكم في البلاد. يدور الحديث عن"بوتين جديد"يستعد الروس للاحتفال به رئيساً"جديداً"لبلادهم في الانتخابات المرتقبة في الرابع من آذار مارس المقبل. فيه من سابقه بعض الملامح، فهو ضابط الاستخبارات السوفياتية السابق ذاته، الذي طلب من سفراء بلاده يوماً أن يتحولوا"جواسيس"وأن يزيدوا نشاطهم في جمع المعلومات. وهو الذي رفع قبضته في وجه النظام الدولي، مذكّراً بأنه"لم يعد من حق أحد أن يعامل روسيا باستخفاف". وهو أيضاً صاحب السلطات الواسعة الذي أعاد هيكلة الاتحاد الفيديرالي ليضع كل النفوذ في يدي الرئيس وحده. لكن بوتين الجديد فقد كثيراً من الصفات التي رافقت صعوده الصاروخي إلى رأس الهرم، نهاية تسعينات القرن العشرين، ولازمته 12 عاما، وأبرزها أنه خسر اللقب المحبب إلى أنصاره. فهو يخوض الانتخابات المقبلة في حين لم يعد"زعيم الأمة"الذي تجمع عليه الغالبية العظمى من الروس، وبعدما فقدت بريقها الأول برامجه و"خطط التطوير الإستراتيجية"، وباتت قطاعات واسعة من الروس ترى في الحديث عنها مجرد دعاية انتخابية. ورغم أن نتائج السباق إلى الكرملين تبدو محسومة سلفاً، بصرف النظر عما إذا كان بوتين سيفوز من الدورة الأولى، أو سيحتاج الى خوض جولة ثانية، فالأكيد أن الحملة الانتخابية أظهرت عمق التغييرات التي أحدثتها تحركات المعارضة الروسية خلال الشهرين الأخيرين. وقد برز ذلك في محطات عدة، خلال الحملة الانتخابية، إذ سعى بوتين إلى النأي بنفسه عن حزب السلطة"روسيا الموحدة"المتهم الأبرز بالتزوير في انتخابات مجلس الدوما. وبعدما كان المؤسس و"الأب القائد"لناشطي الحزب، لم يخفِ فريق بوتين تذمره من"محاولات الربط بين المرشح الرئاسي والحزب". وسربت وسائل إعلام معطيات عن تعليمات تلقتها كي تتجنب"المديح الفائض"لبوتين في تغطياتها، تحسباً لردود فعل معاكسة لدى الناخبين. أما المعارضة فأدركت أن لديها فرصة لا تعوّض، فاطلقت حملة تعتبر سابقة ضد بوتين وفريقه. من كان يتوقع مثلاً أن يرى الزعيم الروسي القوي جالساً خلف القضبان، يُحاسب بتهمة نهب البلاد؟ هذا الفيديو المركب من محاكمة ميخائيل خودوركوفسكي، بعدما بدّل المعارضون رأسي الرجلين، هو الأكثر انتشاراً في أوساط الشباب الآن. ولم يتردد معارضون في اطلاق نشاطات مبتكرة غير التظاهرات الكبرى، تظهر أن"الطلاق"مع الزعيم لا رجعة عنه. إذ أطلق بعضهم حملة"لنودِّع شتاء بوتين السياسي"بينما ذهب آخرون لتنظيم اعتصام للدمى جمعوا فيه عشرات الألوف منها ليقولوا للسلطة: حتى الدمى تعارض سياستكم ولا تحتاج لترخيص خاص للتظاهر ولن تستطيعوا احتجازها! كان تصور ذلك في روسيا صعباً قبل سنة. ويستعد بوتين لتولي الرئاسة مجدداً، مفضلاً كما يقول بعضهم الهروب إلى السياسة الخارجية، عبر عرض العضلات العسكرية والسياسية، وصولاً إلى التلويح بالهراوة النووية في وجه"الأعداء"، كما قال رئيس الأركان نيكولاي ماكاروف عندما هدّد بأن بلاده"لن تتردد في استخدام السلاح النووي إذا تعرضت لخطر". واعتبِر ذلك تحذيراً مباشراً من محاولات التدخل في شؤون روسيا، يعكس قلقاً لدى النخبة الحاكمة من التداعيات المحتملة لإعادة انتخاب بوتين، من دون رصيد شعبي كاسح. ويندرج في السياق ذاته، كما يرى خبراء، تصعيد اللهجة في الملف الإيراني، ورفع الصوت عالياً في أزمة سورية، وحتى التلميح بخطط لإحياء"اتحاد"من نوعٍ ما في الفضاء السوفياتي. ورغم كل شيء، وكل نبرات الغضب، هناك من يبدو مقتنعاً بأن لهجة موسكو ستتراجع تدريجاً بعد الانتخابات، عندما يبدأ بوتين الجديد في ترتيب أوراق المرحلة، وبناء توازنات قد يسقُط منها بعض الملفات، حرصاً على ملفات أكثر أهمية لدى الكرملين.