لا شك أن مسائل كسلاح"حزب الله"والاغتيالات تعني المجتمع اللبناني المدني وغيره على الأقل بنفس القدر الذي تعنيه مسألة العنف الأسري مثلاً. فلماذا تُصنف هذه الأخيرة في عداد قضايا المجتمع المدني وتبقى القضايا الآنفة الذكر خارجه؟ سيقول البعض إن السبب هو غياب الإجماع على قضايا كالسلاح والاغتيالات. لكن هل من المفترض أن يتبنى النشاط المدني فقط تلك القضايا التي يقع عليها الإجماع؟ وما هي الحاجة أصلاً إلى تبني قضايا إذا كان الإجماع عليها حاصلاً فعلاً. ربما كان المقصود بالإجماع هنا ليس إجماع المجتمع بل إجماع السياسة. بحسب هذه النظرة، لا تُصنف المسائل في خانة قضايا المجتمع المدني في حال وقعت في صلب الانقسام السياسي. لكن ما الذي يبرر إقصاء المسائل التي تدخل في صلب الانقسام السياسي من خانة قضايا المجتمع المدني؟ قد تكون الإجابة براغماتية محضة، باعتبار أن هناك فسحة أكبر لتحقيق تقدم في القضايا التي لا تقع في صلب الانقسام السياسي، حيث من الممكن إقناع الأطراف المتنازعة وجمهورها بتبني تلك القضايا. كذلك من الممكن للناشط المدني التحرك والدعوة داخل المجتمع بحرية أكبر عندما لا يحسب تحركه على طرف سياسي من دون الآخر. لا يقدم مفهوم البراغماتية للنشاط المدني تصوراً جذاباً لهذا النشاط. فبحسب هذا المفهوم، ما يدفع الناشط المدني إلى تبني قضية ما دون غيرها لا يأتي حصراً من أهميتها للمجتمع، بل يستوجب أولاً وقوعها خارج الاصطفاف السياسي. على رغم ذلك، قد لا تكون المقاربة البراغماتية للنشاط المدني أمراً سيئاً بحد ذاته خصوصاً إذا اعتُمدت بوضوح وشفافية في ظل إدراك لما لها وما عليها. ولكن في الغالب لا يتبنى ناشطو المجتمع المدني في لبنان هذه النظرة البراغماتية. بل ينطلق هؤلاء في تصنيفهم للقضايا من نظرة دونية لطبيعة الانقسام السياسي. بحسب هذه النظرة، لا يغدو هذا الانقسام سوى صراع عقيم ومدمر على السلطة، خال من أي تصور أو هدف يمت بصلة إلى مشاكل وحاجات المجتمع الحقيقية. هذا الموقف المترفع عن الشأن السياسي والمشيطن له يوفر الخلفية التي يتعامل من خلالها ناشطو المجتمع المدني مع السياسة، والتي تجعل مسائل الخلاف السياسي رجساً وجب تجنبه. ليس هناك ما يبرر هذه النظرة الدونية للسياسة وقضاياها. فهذه ليست النظرة السائدة للخلافات السياسية في المجتمعات الأخرى، إذ لا أحد يعتقد على سبيل المثال بأن الخلاف السياسي في الولاياتالمتحدة حول مسائل التدخل الخارجي والضمان الصحي والهجرة والإجهاض ليس أدوات للصراع على السلطة وأنها لا تعبر عن انقسام على قضايا تعني فعلاً مواطني هذه الدولة. فلماذا لا يطبق ناشطو المجتمع المدني النظرة نفسها على الخلاف السياسي في لبنان؟ يبدو أن هناك سببين أساسيين يرفدان النظرة الدونية للسياسة وخلافاتها لدى ناشطي المجتمع المدني في لبنان. الأول هو تبني نظرة شعبوية للسياسة أو لما يسمى"الطبقة السياسية"، حيث يتم إلقاء اللوم في كل ما يصيب المجتمع على هذه الطبقة التي يتم التعامل معها وكأنها مجموعة غزاة من الفضاء. ويتم تجاهل حقيقة أن قوى المجتمع الحية هي التي تشكل الرافعة الأساسية لهذه"الطبقة السياسية"وذلك عبر انتخابات تتمتع، على رغم كل نواقصها الكبيرة، بما هو أكثر من الحد الأدنى من الديموقراطية والتعبير الحر. يغرق ناشطو المجتمع المدني في كليشيهات عمياء كمقولة التوريث السياسي، متناسين أن معظم القيادات الأساسية في لبنان بري، نصر الله، جعجع، عون، رفيق الحريري لم تأت عبر التوريث، بل أتت من بيئات متواضعة صنعت نفسها بنفسها. كذلك يتناسون أن التوريث السياسي في لبنان، على خلافه في الأنظمة الديكتاتورية، كسورية أو كوريا الشمالية، يتم بخيار، وغالباً بإلحاح، شعبي وعبر صناديق الاقتراع. الرافد الثاني للتعاطي مع الخلاف السياسي في لبنان بتعالٍ وترفُّع هو تبني مقولة تزدهر في أروقة منظمات الأممالمتحدة والكثير من شبيهاتها من المنظمات غير الحكومية. مؤدى هذه المقولة أن الصراعات التي تدور في هذا الجزء من العالم هي صراعات طائفية، اثنية أو قبلية، حيث لا موجب أخلاقياً للوقوف مع طرف فيها من دون الآخر. وبحسب هذه النظرة، لا تحمل الصراعات في منطقتنا قضايا مهمة ذات بعد أخلاقي وسياسي حقيقي. بالتالي المطلوب فقط هو العمل على إقناع أفرقاء الصراع بقبول تسويات ما تجنّب"المدنيين"تبعات خلافاتهم، أو العمل على إقناع المدنيين بعدم الانخراط في تلك النزاعات. هذه هي النظرة التي يسوّقها البعض للصراع في سورية مثلاً. فبدلاً من أن يُعتبر ما يجري هناك سعياً لتحقيق مطلب سياسي محق وبديهي، يجري تصنيفه في خانة الصراع الأهلي لا غير. يحصل الخلط هنا بين وقوف جهة أهلية إلى جانب أحد أطراف النزاع أكثرية علوية إلى جانب النظام وأكثرية سنية ضده وبين اختزاله إلى نزاع أهلي محض خالٍ من أي مضامين أخلاقية أو مطالب سياسية محقة. كذلك في لبنان يحصل الخلط بين وقوف جهات أهلية إلى جانب أحد أطراف النزاع وبين اعتباره نزاعاً أهلياً بلا مطالب سياسية عادلة. ولا شك أن الاصطفافات الطائفية والعرقية كما في جنوب أفريقيا والبوسنة ورواندا وسورية أمور غير صحية في أي مجتمع كان، لكنها بحد ذاتها لا تفسد للحق قضية. يستند ناشطو المجتمع المدني في لبنان إلى واقع الانقسام الطائفي على الخيارات السياسية ليبنوا استنتاجهم الخاطئ عن المساواة الأخلاقية والسياسية بين هذه الخيارات. وهذا يخدم الخيارات الأسوأ التي لا بد أن تكسب من غياب المفاضلة الحقيقية. هكذا ينتهي ما يصوره ناشطو المجتمع المدني على أنه دعوة للترفع عن الاصطفافات الفئوية إلى مساهمة غير مباشرة في القهر السياسي والاجتماعي.