السجال الدائر في لبنان وسورية حول تسييس محتمل لمهمة ميليس مناسبة للتنويعات التالية وليس موضوعاً لها. 1- التسييس: يمكن النظر إلى التسييس من موقعين متقابلين: من موقع الحرب والتناحر، حيث يرى كنقل إلى دائرة التسوية والتفاوض والحلول السلمية موضوعاً للتقاتل، أو من موقع الإجماع حيث يرى التسييس كنقل إلى دائرة الاختلاف والتنازع السياسي أمراً لا خلاف عليه. وعليه يمكن اعتبار التسييس انتصاراً للعقل أو انتصاراً للانقسام والنزاع. في جانب منها المسألة مسألة قيم. فالعروبي الذي يعتبر أن"ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة"قد يأسف لتفكك الإجماع القومي المفترض على مبدأ تحرير فلسطين وانتقال الصراع العربي - الإسرائيلي من"صراع الوجود"إلى دائرة التسوية. بينما قد يرى فيه سياسيون ومثقفون"واقعيون"انتصاراً للصفة السياسية للإنسان على صفاته الحربية والعدوانية. لكن دائرة التسوية والتفاوض هي ذاتها دائرة الاختلاف والتنازع، ووراء اختلاف المواقع ونظم القيم للتسييس معنى واحد: جعل شأن بشري ما موضع تجاذب سياسي بين فاعلين بشريين تحركهم مصالح بشرية، أي نزع"الطبيعية"أو القداسة أو البداهة عنه، وإضفاء الخلافية عليه. إن تسييس نظام الحكم في بلد عربي ما يعتبر من منظور النظام ذاته عدواناً عليه وتشكيكاً في شرعيته، فيما يبدو من وجهة نظر عقلانية نقلاً له من نصاب القداسة والتأبيد إلى نصاب السياسة والتاريخ. ويتضمن التسييس حتماً أن كل صراع هو صراع بين حقين نسبيين وليس بين حق مطلق وباطل مطبق، وهو ما لا تتقبله نظم تبنى شرعيتها على مطابقة ذاتها مع الحق بالذات ونبذ خصومها إلى دائرة الباطل. ويسيج محافظون وأصحاب سلطة مواقعهم ومواقفهم بإضفاء طابع أخلاقي أو ديني أو بديهي عليها، من أجل تحصينها ضد التسييس. الإدارة الأميركية الحالية ترفض تسييس قضية الإرهاب، مع ما قد يتضمنه ذلك من ضرورة التفاوض والإقرار البسيط جداً بوجود أسباب للإرهاب، مفضلة النظر إليها كصراع بين خير وشر. ولعل أسامة بن لادن يرفض السياسة أيضاً لأنه يضفي طابعاً دينياً مطلقاً على صراعه مع الأميركيين والغرب. ومن المفهوم أن من يعتبر أن إعصار كاترينا، مثلاً، محض كارثة طبيعية أن يعترض على تسييسه من قبل علماء وإعلاميين وناشطين بيئيين وسياسيين. التسييس ينزع التقديس، لكنه ليس سياجاً ضد التلاعب. تسييس مهمة ميليس مثلاً أمر لا يصح استبعاده من حيث المبدأ، رغم أن معظم شكاوى التسييس المتداولة مسيسة هي ذاتها. هنا قد يكون تسييس الشكوى من التسييس مفيداً. 2- السياسة فضيلة أرسطية. فهي الوسط الذهبي بين الحرب والإجماع المستقر، أو بين الجحيم والنعيم إن شئت. فالسياسة لا توجد في النعيم حيث لا"تناقضات"أو حيث تنحل النزاعات في عسل الوفرة المطلقة. ولا توجد كذلك في الجحيم، حيث يفترض أن النزاعات مطلقة ولا سبيل إلى تسويتها. وحين يريد حاكم استبدادي كبح اهتمام مواطنيه بالسياسة يقدم تصوراً عن الوطن كأسرة هو ربها، ويفترض أن أفرادها متحابون يشكلون مثالاً للإجماع الطبيعي. ونقيض الإجماع هو الحرب، التي هي بمثابة إلغاء للسياسة. قول كلاوسفيتز إن"الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى"هو مراهنة عقلانية، تفترض استقلال السياسي عن العسكري، وهيمنة الأول على الثاني، وتضمر أن الحرب تقع بين جيوش قومية، وأنها ممارسة للقوة يتحكم بها سياسيون عقلانيون يقدرون العواقب ومعرضون للمحاسبة ويقودون دولا قومية. حين لا تتوافر هذه الشروط تفقد الحرب معقوليتها، وكذلك السياسة. 3 - السياسة ممكنة لأن الناس متماثلون، وهي ضرورية لأنهم مختلفون. يؤسس التماثل الجوهري للناس إمكانية التفاهم والتفاوض بينهم، فيما تتأسس ضرورة التفاهم والتفاوض على احتمال تحول الاختلاف بينهم إلى صراع. إذا افترضنا أن اختلاف الناس مطلق فإن السياسة تغدو غير ممكنة. وتجنح كل حرب إلى إضفاء طابع مطلق على اختلافات الناس، كأن تنكر الصفة الإنسانية على العدو، أو تمنح الفارق الديني أو العرقي أو اللغوي قيمة مطلقة تهون أمامها قيمة الإنسانية. نجد تنويعات على هذا الموقف في كل المجتمعات. فمن يرفضون لدينا الحوار مع خصومهم السياسيين أو الايديولوجيين يميلون عادة إلى إضفاء صفة مطلقة على ما بينهم وهؤلاء الخصوم من فوارق. تسييس الفوارق بالمقابل يعني أنها تقبل التذليل والوصول إلى قواسم مشتركة. 4- يبدو عصرنا عصر العقلانية السياسية، رهانه تسييس كل إجماع، أي الكشف عما يعتمل وراءه من قوى وتوازنات ومصالح. وإذ تبحث العقلانية هذه عن الأسباب القابلة للتعقل وراء كل حرب، وعن المصالح المعقولة وراء النزاعات المتفجرة، فلكي تتمكن من تأسيس التسوية والحلول التفاوضية على مفهوم المصلحة وتوازن المصالح. وإن كانت العقلانية السياسية لا تكف عن تفكيك الإجماعات نظرياً، فإنها لا تكف أيضاً عن بنائها عملياً. ورغم أنه يتعذر استبعاد الحروب والنزاعات، إلا إن من الممكن دوماً تعقلها واقتراح آليات وبناء مؤسسات وهياكل قانونية للتسويات وإنتاج سلم متفاوض عليه. فليس هناك حرب غير سياسية، أي غير قابلة لتسوية تضمن المصالح المتعارضة، وليس هناك إجماع غير سياسي، أي غير مصنوع أو غير مكتسب ومتفاوض عليه. غير أن هذه مسلمات عقلانية وليبرالية أكثر ما هي وقائع محققة. تسوية الحروب والنزاعات بالسياسة أمر مرغوب، يغدو ممكناً حين تكون قوى المتنازعين متقاربة، ويغدو الممكن واقعياً حين يفكر المتنازعون ويؤولون الوقائع بطرق متقاربة. هذا غير محقق في عالم اليوم. هذا يفرض إما تقوية الضعفاء ليصبحوا أنداداً للأقوياء وقادرين على مقاومتهم وفرض التفاوض عليهم، أو تأسيس حكومة عالمية سيدة تطابق بين دائرتي السياسة العقلانية والأخلاق. لكن ربما يلزمنا غزو من المريخ من أجل التفكير بتشكيل حكومة وحدة وطنية أرضية.