نسي الميليشيويون، المسلّحون منهم والسياسيون، أن الشعب الليبي الذي خاض جزءٌ كبيرٌ منه حرب التحرير الثانية ضد المستعمر المحلّي بعد قرنٍ من حرب التحرير الأولى ضد المستعمر الأجنبي، لم يعُدْ يعرف الخوف، ولا يعترف بمراكز القوى، ولا يقف صامتاً عاجزاً أمام إهدار كرامته وقتل أبنائه وسرقة ثرواته واغتيال ضيوفه وضباط جيشه وإضاعة استقلاله وكيانه... وعشرات صنوف الممارسات الإجرامية الإرهابية الأخرى، من الخطف والقتل على الانتماء الى القبيلة أو المنطقة بديلاً من القتل على الهوية، كما حدث ذات زمنٍ في لبنان والعراق، واستباحة الممتلكات وتشريد آلاف العائلات وإسكات الأصوات وتدمير المقابر وتهريب الآثار والوقود والسلع وفتح أبواب ليبيا لمطاريد الإرهاب والجريمة من دول الجوار ومن غيرها، واحتجاز آلاف المتهمين من دون محاكمة، في خلطٍ بين المُرتكبين الذين تجب معاقبتهم بالقانون وبين المُشتبه بهم والأبرياء، واعتقال الناس لمجرد وشاية أو تصفية حسابات، مما لا يحدث حتى في ظل أعتى الدكتاتوريات، وهي جرائم وممارساتٌ ما كانت لتحدث بهذه الفظاعة والوضاعة لو كان هناك حد أدنى من هيبة الدولة، التي يزعم رئيس المؤتمر الوطني الليبي محمد المقريف وجماعته أنهم يمثلونها، ومن سلطة القانون، التي تدعي الحكومات غير المنتخبة أنها تعمل تحت مظلتها. استعادة خطاب القذافي وبدلاً من أن يُسائل قادة الميليشيات أنفسهم، وهُم الحكام الحقيقيون الفاشيون لليبيا الآن: لماذا أصبحت بنغازي وكل أهل ليبيا يكرهوننا بعدما كانوا أيام الثورة ضد معمر القذافي والقتال في المدن والجبهات ضدّ كتائبه يكادون يرفعوننا إلى مرتبة التقديس، ونحن أبناؤهم وهُم أهلنا الذين لولا دعاؤهم ودعمهم لما قاتلنا ولا انتصرنا، بدلاً من ذلك نجدهم يستعيدون خطاب القذافي عن الخمر والهلوسة، والذي أخاله اليوم في مماته أسعد منه في حياته، والليبيون يقتتلون ويتشرذمون بعدما توحدوا في قتاله. بدلاً من أن يطرح زعماء الميليشيات وأعضاؤها هذا السؤال كُلٌّ على نفسه ويقف مُتجرداً من هواه الذي هوى به إلى درك التحول إلى جلاّد أمام مرآة نفسه يحاسبها ويسائلها، نجده ومن معه من شركاء الغزوة والغنيمة وحراس هيكل التسلط والتخلف والتبعية من المتبوعين التابعين للخارج والعائدين على صهوة الزيف والابتزاز وتزوير التاريخ ليقطفوا ثمار ثورةٍ لم يشاركوا فيها، نراهم يهربون إلى الأمام فيدينون المواطنين بدل إدانة المسلحين غير الشرعيين، ويرفعون الصوت احتجاجاً على المظلومين الذين فقدوا الأمل بهشيم الدولة وفقدوا الثقة بحكام الصدفة ومتسلّطي الأمر الواقع، فاندفعوا في لحظة انفجارٍ للغضب الذي تراكم عبر الشهور والأيام مقتحمين مقار الميليشيات مُستقبلين الموت الذي أخذ عدداً منهم، في استعادةٍ درامية تراجيدية لاقتحام أهل بنغازي الأبطال كتيبة"الفضيل"الأمنية الوحشية في حكم القذافي والتي بسقوطها مساء الجمعة 18 شباط فبراير 2011 بدأت مسيرة تساقط النظام السابق حتى سقوطه المحتوم في 20 آب أغسطس من العام ذاته وموته بموت رمزه وصاحبه في 20 تشرين الاول اكتوبر 2011. الثورة الثانية إن ما حدث في بنغازي مساء الجمعة 21 ايلول سبتمبر 2012 يمكن وصفه بكل يقين وراحة ضمير بأنه الثورة الثانية في ليبيا، أو على الأقل لمن لا يعتبرون ما يحدث ثورة بالمفهوم المعرفي ودلالات الأسباب والنتائج، هو انتفاضةٌ شعبيةٌ حقيقية، ربما يخطئ ويضع الأمور في غير نصابها والحقائق في غير مواضعها من يعتبرها حالةً فوضوية مُخططاً لها أو مُخترقة من بقايا النظام السابق، فكلّ من يعرف بنغازي ويستطيع بحكم التعمّق في الذات البنغازية التي هي الاختصار المُكثف للشخصية الليبية أن يفكك شفرتها ويقرأ طلاسمها يعرف مسبقاً أن بنغازي التي تراكمت عليها الجراح واستوغلت في قلبها الطيب الطعنات، ما كانت لتصبر أكثر مما صبرت، وكذلك لن تصبر أكثر طرابلس والمدن الليبية الأخرى على أذى وتطاول وإجرام أشباه الثوار وميليشيات ما بعد التحرير وأبطال الفنادق ومناضلي التلفزيونات والهابطين على كراسي السلطة والثروة والقرار بالمظلات، فقد تراكمت منذ سقوط القذافي الأخطاء المقصودة والمُتعمدة، التي تضخمت إلى خطايا لم تبدأ بمركزة السلطة التنفيذية والأمنية والاقتصادية في مباني مجلس الوزراء والوزارات والمصرف المركزي، بل سبقتها بأفعال وممارسات وقوانين وقرارات المجلس الانتقالي، شاهد الزور الأكبر على استباحة الوطن من الدول والعصابات والمافيات وأجهزة الإستخبارات والإرهابيين والجواسيس، والزوج المحلل للزواج الباطل بين العروس الليبية والأزواج المتعددين من أجانب وليبيين لا زالوا يحتفظون بجنسياتهم الأجنبية. أحدث الخطايا ولم تنته تلك الخطايا بإهمال الجرحى الثوار وفاقدي اطرافهم وتشريد من نال فرصة السفر للعلاج منهم على مشافي العالم التي تحولت إلى مقابر ومنافي ولتكون أحدث الخطايا وليس آخرها إعلان رئيس المؤتمر الوطني بعد جريمة اغتيال سفير أميركا"صديق الثورة"الليبية، أن"القاعدة"موجودة في ليبيا، وهو ما لم يجرؤ على إعلانه الأميركيون أنفسهم، لعدم اكتمال التحقيقات، وهو ما اعتبره أهل بنغازي والمنطقة الشرقية وكل الليبيين إساءةً إليهم وفتحاً لباب دخول ليبيا الحرب الأميركية والدولية ضد تنظيم"القاعدة"الحرب على الإرهاب، وهي حربٌ قاسية مريرة طويلة ستؤخر من دون شك الاستقرار المنشود والرخاء المقصود، وارتباط ذلك باستباحة الطيران والبحرية الأميركيين أجواء ليبيا ومياهها في ظل ما سمي بتحالف أصدقاء ليبيا، الذي تقوده قطر ويرفض الساسة شرح بنوده وأسراره للرأي العام والذي يمكن توصيفه في تبسيطٍ غير مُخل بأنه عهد وصاية وانتداب على ليبيا. ويبقى من الخطايا الكبيرة سرقة نتائج الانتخابات وتحويل الأقلية إلى سلطة والأكثرية إلى لا شيء. ويبقى في مقام تعداد الخطايا الكبرى التي يضيق عن توصيفها هذا المقال، توقف التنمية واستفحال البطالة والارتفاع الجنوني للأسعار وانسداد آفاق الأمل أمام شعبٍ ضحى بدمائه وأرواح أبنائه ليفتح مصاريع أبواب الأمل ولا مانع عنده أن يدفع أكثر لتبقى مفتوحةً مُشرعة. دمٌ كثيرٌ سال في بنغازي في جمعة الغضب على الميليشيات والسلطات وسيسيل حِبرٌ كثيرٌ في وصف ما حدث وما سيحدث وتحليلهما، لكن الحقيقية تبقى واحدةً وإن تعددت زوايا النظر إليها، و"أُمّ الحقائق"أن قطار الثورة في ليبيا لن يتوقف في محطة الأمر الواقع المفروض مُغالبة وزوراً وابتزازاً ، ونهر الثورة لا يعود إلى المصب، وهو نهر من دموع ودماء لا يمكن أن تضيع هدراً في لعبة السلطة والسياسة. * كاتب وصحافي ليبي