جاء الصعود السياسي للتيار السلفي في مصر بعد ثورة 25 يناير مفاجأة للكثيرين، وأحدث صدمة امتزجت بحال من التوجس والخوف. ويتمثل سبب الصدمة في الصورة المخيفة التي ظهر أو أُريد أن يظهر بها التيار السلفي الذي طالما ابتعد من الانشغال بالسياسة، واتخذ منحى انعزالياً عن قضايا المجتمع السياسية، بل إن بعض فصائل ذلك التيار كانت تنادي بطاعة الحاكم، وإن كان فاسقاً. وأثار حصول السلفيين في الانتخابات البرلمانية المصرية في مرحلتها الأولى على أكثر من 25 في المئة من أصوات الناخبين، مخاوف عدة في الشارع المصري، ليس فقط من جانب الأقباط واليساريين والليبراليين، ولكن أيضاً من جانب مواطنين ينتمون إلى فئات مختلفة. كما أثارت هذه النتيجة مخاوف التيار الإسلامي المعتدل وبخاصة"الإخوان المسلمين"وأحزاب"الوسط"و"التيار الرئيسي". وطرحت تساؤلات عدة عن مصادر قوة هذا التيار وشعبيته، ومن أين اكتسبها، وكيف يمكن أن يوظِّفها وإمكان سيطرته على الجمهورية المصرية الثانية، خصوصاً أن هذا الطرف الجديد يطرح نفسه بقوة كرقم في المعادلة السياسية ويقدِّم نفسه كأحد اللاعبين الرئيسيين. فإذا كان السلفيون حصلوا على 25 في المئة من الأصوات خلال 30 عاماً من العمل داخل المجتمع بينما حصل الإخوان الذين يزيد تاريخهم عن 83 عاماً على 40 في المئة من الأصوات، فماذا يكون الوضع السياسي للسلفيين بعد عشر سنوات من الآن؟ هناك عوامل تفسر هذا الصعود غير المتوقع للسلفيين وهي ذاتها أهم محددات إمكان سيطرة هذا التيار على الجمهورية الثانية، ومنها قدرة هذا التيار على الحشد الجماهيري وتوحيد جماعاته وهيئاته وأحزابه المختلفة في تحالف واحد. وباستقراء الوضع الداخلي للسلفيين يلاحظ الآتي: لدى هذا التيار قدرة على الحشد والانتشار وسط الجماهير غير مسبوقة لا ينافسه فيها سوى"الإخوان المسلمين"، وذلك بفضل دور رموزه ومنهم الشيخ محمد حسان والشيخ الحويني وغيرهما كثر يسيطرون على آلاف المساجد والزوايا المنتشرة في ربوع البلاد يقدر عددها ب 3000 مسجد وزاوية. وتنتشر رموز التيار السلفي في مختلف محافظات مصر وبعضهم تتجاوز جماهيريته شعبية أحزاب كبرى على الساحة السياسية. وما يزيد من قدرة التيار على الحشد امتلاكه 30 قناة تلفزيونية منها"الرحمة"، و"الناس"و"الحكمة"، كما أن مؤلفاته هي الأكثر مبيعاً في مصر، وشرائط الكاسيت التي تحتوي على خطب أركانه ومحاضراتهم الدعوية هي أكثر مبيعاً من شرائط أشهر مطربي مصر والعالم العربي. كما أن مؤسساتهم وبخاصة الجمعية الشرعية وجماعة الدعوة السلفية وجمعية أنصار السنة المحمدية لها فروع عدة في مختلف المحافظات يقدر عددها ب 700 فرع، في كل منها مسجد ومستشفى ومكتبة دينية وأقسام لتحفيظ القرآن. وهي تقدم خدمات صحية وتعليمية وثقافية ودينية واجتماعية من قبيل رعاية الفقراء وكبار السن وتزويج الأيتام وغيرها. كما أن كوادرهم المنتشرة في مختلف المحافظات يشملون أيضاً كوادر قيادية ومثقفة من شيوخ الدعوة وأطباء ومهندسين ومحامين وأساتذة جامعات ومدرسين وصحافيين ورجال أعمال وتجار، وهو الأمر الذي يساهم في وصول أفكارهم إلى قطاعات واسعة من المجتمع وتجنيد أنصار لهم من مختلف الفئات. فهذا التيار أحكم سيطرته على قطاعات كبيرة من المجتمع وأوجد لنفسه أرضية على الساحة المصرية فاقت الوجود السياسي للتيارات والحركات الإسلامية الأخرى، بخاصة في الأقاليم والمدن الريفية المصرية. ويلاحظ أن أكثر فئات المجتمع تأييداً لهم هي الفئات البسيطة وهو الأمر الذي يدل على إمكان زيادة شعبيتهم في تلك المناطق في مختلف المحافظات. وهذا النفوذ تزايد وأضحى أكثر وضوحاً منذ اندلاع ثورة يناير على حد قول كرم صابر، المدير التنفيذي لمركز الأرض لحقوق الإنسان في القاهرة، الذي قال إن"السلفيين استفادوا من السنوات التي حُظر فيها جماعة"الإخوان المسلمين"عن طريق توسيع نفوذهم في القرى والريف والمناطق الشعبية ودعمهم في ذلك نظام الرئيس السابق الذي عقد معهم صفقة غير مكتوبة من خلال جهاز أمن الدولة ليقدم السلفيون تأييدهم السياسي لنظام مبارك الذي يترك لهم ساحة العمل الدعوي والخدمي في أوساط الجماهير لمواجهة"الإخوان المسلمين". تقديرات لا يوجد حصر حقيقي لأعداد السلفيين في مصر، ويزيد من صعوبة الأمر غياب هيكل تنظيمي واحد يجمعهم على غرار التنظيمات والجماعات الدينية الأخرى مثل الإخوان أو الجماعة الإسلامية وغيرهما، ولكن بعض التقديرات المتناثرة تقول إن محافظة مثل الإسكندرية فيها ما يقرب من مئتي ألف سلفي، وهكذا الحال بالنسبة إلى بقية المحافظات مثل الجيزة وبني سويف والدقهلية والشرقية والبحيرة وبورسعيد وغيرها من المحافظات التي يصل فيها تعداد السلفيين إلى أرقام تفوق مستوى الحدس العام. وينتشر هؤلاء بين جميع فئات المجتمع في المدارس وفي الجامعات، بين التجار وأصحاب المحال، بين أصحاب الشركات ورجال الأعمال وبخاصة بين الدعاة وخطباء المساجد، وفي المناطق الريفية والشعبية. ولا تخطئ العين كثافة المتنقبات في المناطق التي يمثل السلفيون فيها كتلة سكانية غالبة، حتى إنهم دخلوا الجامعة الأميركية والنوادي الشهيرة. وما يزيد من شعبية هذا التيار استخدامه ورقة الدفاع العلني عن هوية مصر كدولة عربية إسلامية والمادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وهو الأمر الذي يمنح السلفيين دوراً فاعلاً في الخريطة السياسية الجديدة في مصر وحضوراً في المشهد السياسي، وهو الأمر الذي كان أكثر وضوحاً أثناء الاستفتاء على التعديلات الدستورية وفي الانتخابات البرلمانية، في حين رأى بعضهم أن ذلك محاولة من السلفية لاختطاف الثورة. وكغيره من التيارات السياسية والدينية في مصر استفاد التيار السلفي من نتائج ثورة 25 يناير بصورة لم يتوقعها أحد، وهو ما مثّل مفاجأة حقيقية للمراقبين، ربما فاقت ما اكتسبه التيار الوسطي المتمثل في جماعة"الإخوان المسلمين"بالنظر إلى حجم تضحيات كل من التيارين في الصراع السياسي مع النظام الحاكم السابق، خصوصاً أن التيار السلفي كان متوافقاً مع ذلك النظام الذي أعطاه فرصاً واسعة للحركة والتغلغل في المجتمع، بينما دفع"الإخوان المسلمون"ثمناً باهظاً نتيجة مواجهة النظام لهم بصور مختلفة من القمع الأمني والسياسي، خصوصاً أن التيار السلفي لم يشارك في الثورة، ولم يكن له وجود يذكر داخل ائتلاف شباب الثورة على عكس الإخوان. مصالح متبادلة وتحدث بعضهم عن صفقة بين السلفيين والمجلس العسكري تحقق مصالح متبادلة للطرفين بحيث تضمن للسلفيين شرعية الوجود في الشارع عبر بوابة المجلس الذي يريد بدوره استغلال السلفيين كجماعة منظمة في إحداث التوازن السياسي في المجتمع والحصول على دعمهم في مواجهة القوى السياسية الرافضة له، لكن التيار السلفي يؤكد أن دعمه المجلس العسكري الذي يقود البلاد لا يمنعه من مراجعته في قراراته. وعبّر في هذا الصدد عن انتقاده أداء المجلس في ما يتعلق بمحاكمة الرئيس السابق ونجليه، مؤكداً أنها جاءت متأخرة، لكنه طالب في الوقت نفسه بإعطاء المجلس مزيداً من الوقت لإكمال عملية انتقال السلطة إلى حكومة ورئيس مدنيين. وبعد نجاح الثورة استطاع التيار السلفي أن يجذب الأضواء وإن كان في شكل صادم ومخيف. فقد أُطلق الكثير من معتقلي التيار، وعاد الكثيرون منهم إلى فرض آرائهم المتشددة بجرأة لم يكونوا يتمتعون بها في عهد مبارك. وأثارت الشائعات التي جرى ترويجها على بعض مواقع الإنترنت والفضائيات حول تهديد السلفيين باستهداف السيدات غير المحجبات، حالة من الهلع والخوف لدى الكثيرين. وعلى رغم إصدار التيار السلفي بياناً نفى فيه هذه الدعوات، فإن الشائعة وجدت لنفسها مكاناً على أرض الواقع، بعدما تطور الأمر إلى ظهور حالات فردية حاول فيها بعض أعضاء التيار تغيير ما سموه المنكر باليد في بعض المحافظات والمدن المصرية. وبدا التيار السلفي من خلال الحوادث السابقة ومثيلاتها وكأنه نصب نفسه حاكماً شرعياً على المجتمع، وإنه عزم على إقامة دولة دينية في مصر مستغلاً الأوضاع غير المستقرة التي تمر بها البلاد، وهو ما رفضه أزهريون وإخوان وسلفيون معتدلون. وأرجع الشيخ جمال قطب، وهو من كبار علماء الأزهر، ما يحدث من ظهور دعوات سلفية لتغيير المنكر وظهور من ينادي بالدولة الدينية إلى تراجع الأزهر في المقام الأول، معتبراً أن مقولة دولة دينية اصطلاح مكذوب على الإسلام لا يعرفه القرآن ولا السنة وأن دولة الإسلام دولة مدنية أي تقوم على مجتمع المدينة السلمي. وعلى الجانب السلفي قال أسامة القوصي - إمام وخطيب وداعية -:"إن كوني سلفياً لا يعني موافقتي على إنشاء دولة دينية لأن ذلك يعني أن من يتولى شؤون الدولة لن يقبل الرأي الآخر". المثير في الأمر أن التيار السلفي بدا وكأنه عقد العزم ليس فقط على مواجهة ما يصفه بالتيار العلماني الذي يحاول الاستيلاء على مصر وفق ما يرى التيار، ولكن أيضاً على مواجهة التيارات والحركات الدينية الأخرى، وهو ما ظهر من خلال العمليات المنسقة لهدم الأضرحة، واعتبار السلفيين الحركة الصوفية شركاً، واتهامها بتلقي دعم من أميركا لإحياء احتفالات الصوفية، ما حدا بوكيل المشيخة الصوفية في الإسكندرية جابر قاسم إلى التحذير من أن تكفير السلفية للصوفيين هو نذير خطير يهدد المجتمع. وأكثر التصريحات قوة جاء على لسان مفتي الجمهورية علي جمعة الذي اتهم أولئك الذين يهدمون الأضرحة - في إشارة إلى السلفيين - بأنهم"أصحاب فهم ضيق ويحدثون فتنة في المجتمع ويؤثرون سلباً في أمن البلاد والعباد". المفتي ولا تخفى على أحد حال السخط والغضب التي يبديها مفتي مصر تجاه التيار السلفي الذي اعتبر أنه"أقرب ما يكون إلى العلمانية منه إلى الإسلام". وقال، إن"العلمانية لا تنكر الدين، لكنها تنحي الدين عن سير الحياة، والسلفية المتشددة تريد أن تنعزل بالدين عن سير الحياة". ويرى جمعة أن"السلفية تقبلها العلمانية، ولذلك رأينا العلمانية وهي تبارك السلفية إلى أن لُدغت منها في المصالح. ولكن الفكر السلفي هو الوجه الآخر للفكر العلماني وهو لا يدري"على حد قوله! كل هذا يحتم على المهتمين إدراك حقيقة أن الكادر السلفي موجود بالفعل، وأن دوره في تزايد، وأن البحث عن آلية للتعامل معه ضروري. لكن أزمة التيار السلفي مع المجتمع تكمن في قاع الهرم وليس قمته، فالتيار رغم انتشاره بين ربوع الأقاليم والمدن المصرية، لا يملك هيكلاً تنظيمياً ومؤسسياً واضحاً كتلك التي تتميز بها الحركات الإسلامية الأخرى مثل جماعة"الإخوان المسلمين". ويأتي تشكيل هذا التيار لأحزاب "النور"، و"الإصلاح"و"الحضارة"و"الأصالة" تمثله في الحياة السياسية والمدنية في مصر خطوة في اتجاه توحيد العمل السياسي لهذا التيار ومأسسته، إلا أنها تظل غير كافية إذا لم تشمل القطاع الأوسع من السلفيين، وهو الأكثر انتشار وتشدداً تجاه العمل المجتمعي والمدني ويحتاج إلى متسع من الوقت لإقناعه بجدوى الاشتغال والاندماج في الحياة السياسية. ومن المتوقع أن تلعب"السلفية دوراً في مرحلة ما بعد الثورة لإحداث توازن مع العمل السياسي الضخم الذي يقوم به"الإخوان المسلمون"، لأن السلفيين هم التيار الأضخم في الساحة الإسلامية المصرية إلا أنهم يفتقدون مركزية في التنظيم، كما لا يملكون عمق الخبرة التنظيمية والسياسية التي يتمتع بها تنظيم"الإخوان المسلمين"، فضلاً عن أن توزع السلفيين إلى مجموعات متعددة تتبع كل منها شيخاً من مشايخ السلفية هو عقبة أخرى من عقبات قيام السلفيين بأي دور سياسي موحد بخاصة أنهم يختلفون بشدة ويتنازعون في مواقفهم من القضايا السياسية المختلفة، وهذا أيضاً جانب من جوانب ضعفهم. ما سبق يكشف بوضوح أبعاد الدور المحتمل للتيار السلفي في الساحة السياسية بخاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أمرين: أولهما الديناميكية التي تتميز بها هذه الجماعات من ناحية، ووجود تجارب سلفية مشاركة في البرلمان على غرار تلك الموجودة في الكويت الآن . ويمكن القول إن هناك سناريوين لمستقبل التيار السلفي: الأول أن يمثل هذا التيار الكتلة السياسية الثانية الأقوى على الساحة السياسية بعد الإخوان المسلمين ولا يتحالف مع الإخوان بل يمارس دور المعارضة ومن ثم تزداد توجهاته تشدداً، وهو الأمر الذي قد يكسبه شعبية في أوساط غالبية المصريين الذين ينتمون إلى طبقات بسيطة وما قد يجعله القوة السياسية الأولى في البلاد بما يدفع الإخوان أنفسهم إلى مزيد من التشدد. أما السيناريو الثاني فهو تحالف السلفيين مع الإخوان في تكتل سياسي واحد يقوده الإخوان الأكثر حنكة، أو على الأقل توافق الطرفين وتعاونهما من دون تحالف. كما أن الممارسة السياسية قد تجعل السلفيين أكثر حنكة وفي ضوء رأي عام رافض للتشدد تؤدي كل هذه العوامل إلى سيادة النمط الإخواني على أداء السلفيين الذين يدركون حجم المخاوف المجتمعية المتزايدة تجاههم. وبمرور الوقت قد يتحول السلفيون إلى نسخة ثانية من الإخوان، وإن كانت أكثر تشدداً. * كاتب مصري