منذ أخذنا نقول سراً وجهراً ونكتب ونخطب ونراكم حوارات كانت تطمح الى التأسيس لمرحلة لبنانية جديدة انطلاقاً من اتفاق الطائف الذي لفتنا فيه وسرّنا ومنّانا بالخير انه قام بدمج منهجي عميق بين الميثاق والدستور بحيث أصبح الميثاق روح الدستور وأصبح الدستور جسم الميثاق وبقي مفتوحاً على التطوير بالتطبيق الذي لم يحصل إلا في حدود جزئية. ما تبلور أو تجوهر بالنص على العيش المشترك شأن يقترب من القداسة وتترتب مسؤولية قانونية وآثار عقابية على من يتسبب بالإخلال بمستلزماته. واعتبرنا في الفريق العربي للحوار الإسلامي ? المسيحي والمؤتمر الدائم للحوار اللبناني، واللقاء اللبناني للحوار... ولم نكن وحدنا، ووافقنا من أضمروا الخلاف وتربصوا باتفاق الطائف الدوائر ليتفرغوا لاحقاً لإفراغه من مضمونه بدءاً من أهم مفاصله... وهو مفصل العيش المشترك، حيث يسهل بعد المس به وهزّه، المسّ ببقية المفاصل لأنها تصبح فروعاً من الأصل العيش المشترك. اعتبرنا أن الحوار من شأنه أن يكمل ما أنجزه الطائف من إعلان قانوني وتطبيقي لنهاية الحرب، بالتأسيس المشترك للسلام الأهلي وتعزيز ونشر الاعتدال والوسطية والميل الى التسوية مع ملاحظة أن كل تسوية ستحتاج الى تسوية، بما يقتضي ذلك من تشجيع الاطراف المختلفة على التنازل سلماً عن بعض ما يعتبره كل طرف حقاً له، حتى لا تتضاعف الخسائر بالحرب، وأن التنازل المتبادل أو الصلح بمعناه الحقوقي هو الذي يحفظ النصاب الأعظم من حقوق الجميع، وأن اي منعطف في تاريخ بناء وتجديد بناء أي كيان أو دولة، لا يمكن إنجازه على يد حزب واحد أو فئة واحدة أو أهل دين أو مذهب واحد، بل لا بد من كتلة تاريخية يلتقي في فضائها الوطني الرحب، افراد وفئات متعددة المناشئ والمشارب والخبرات والتجارب والحساسيات، تجتمع على مشروع واحد مفتوح على التغيير، منفتح على النقد، يزداد حيوية بالتعدد ويحفظ التعدد بالحفاظ على المستوى اللازم من الوحدة ويعزز الوحدة بائتلاف المختلف. وتبقى هذه الطبقة كالطبقة التي حققت الاستقلال والجلاء، تجدد نفسها لتجدد الكيان والدولة وتتجدد بها، وتنجز المزيد من العمران والإنتاج والمعرفة وتمنع من تحويل الاختلاف الى خلاف والخلاف الى صراع والصراع الى قتال أو اقتتال والاقتتال الى أعطاب في العقل تزين للوالغين في الدم المزيد من الفتك وتغري الضحايا بإلغاء الدولة الجامعة وإسقاط الانقسام السياسي على الاجتماع الوطني ليطاول كل شيء في الفن والعمران والعلم والسكن والتجارة والأدب ورياض الأطفال والجامعات، ما يحول الوطن الى أوطان والثقافة المجتمعية الجامعة الى لا ثقافات! وقلنا... لعلنا بالحوار مقدمة للعيش المشترك، نستطيع أن نرسخ أو نعمم قناعة بالدولة المدنية التي تحفظ الدين والمدينة، من خلال قناعة راسخة بأن الدولة الحقيقية والحاضنة والجامعة هي دولة الأفراد بصفتهم مواطنين يصلون الى الدولة ويقيمون مؤسساتها بالاختيار الفردي الحر من دون حاجة الى القناة الطائفية، مع الاحترام الشديد للطوائف كمتحدات اجتماعية ليس العيب فيها بل العيب في إدارة تعددها واختلافها من منظور مذهبي ضيق أو منظور وطني وإنساني واسع، مع طموح شديد الى مجتمع مدني تحت سقف القانون يوازي الدولة تحت رعايتها وينقدها ويعترض عليها ليكلمها لا لينقضها. وظهرت في البحر الوطني اللبناني جزر للحوار اللجنة الوطنية للحوار 1996، ومؤسسة أديان والهيئات الحوارية التي تشكلت قبل السينودس من أجل لبنان وواكبته وساهمت في الإرشاد الرسولي والتي تشكلت قبل السينودس حول الحضور المسيحي في المشرق وناقشت مسودة وثيقته بشراكة اسلامية في الحالتين وكانت هذه الجزر تتفق وتختلف فيزداد البلد حيوية ويصبح استشراف المستقبل شأناً مشتركاً لأنه يقوم على أساس المصالح المشتركة التي تفتح العين والقلب والذاكرة والحلم على الأفكار المشتركة والقيم المشتركة، وتعود الى السيادة والزيادة مساحة وعمقاً ثقافتنا البينية التي شارك فيها أدباء وعلماء وقادة كبار من جميع الانتماءات والجهات حتى كان القرآن والانجيل كتابين للجميع وكان نهج البلاغة والمتنبي وجبران ومارون عبود وعبدالله العلايلي وأحمد رضا والحوماني وسعيد تقي الدين وشكيب ارسلان وموسى الصدر مشاعات معرفية عامة، وأخذت الجسور تمتد بين الجزر الحوارية وازدهر النقد للحرب بعيداً من هواجس التبرؤ منها ورميها على الآخر، أي آخر، على أساس أن الجميع شاركوا فيها، وأن الكبار ممن عارضوها وحاولوا إيقافها نالوا عقاباً قاسياً بالنفي أو القتل. وعلى أساس أن المواطنين العاديين الأشد تعلقاً بالوطن كل الوطن، لم يكونوا راضين بما حدث، ولكن أحداً لم يسألهم رأيهم، خطف الجميع أولادهم ليصبحوا ضحايا. وتصبح ديارهم دماراً ومستقبلهم غامضاً ومظلماً لولا أن الحرب توقفت وبدأت الظلمة بالانقشاع. وكنا كمتحاورين قد عقدنا مؤتمرات فكرية وعملانية حول الحوار وساهمنا في جمع متنازعين من بلاد عربية وإسلامية مسيحيين ومسلمين وأصدرنا وثائق عدة حول العيش المشترك والاحترام المتبادل والحضور المسيحي في البلاد العربية وبخاصة فلسطين، وواكبنا القدس بجهود فكرية متكررة. واشتغلنا وما زلنا في نقاشات علمية حول ميثاق الطائف في لبنان، والوثيقة المسيحية في فلسطين. وأنجزنا على المستوى الفردي ما يدعونا الى الفخر ويشعرنا بالأمن والأمان الداخلي، لقد انتزعنا من نفوسنا كل الأدران والذهنيات السامة التي تنتج البغض الطائفي والشقاق الديني والشتات الوطني... وعشنا وما زلنا حالة من الفرح الداخلي بالخلاص من الأوشاب والأمراض وأسباب الالتهاب، ما نستحق الغبطة أو الغيرة أو الحسد عليه ممن لم يعرفوا هذه النعمة. ولم يخلُ الأمر من أسئلة ساذجة وناتجة من تشويه ثقافي واجتماعي باسم الدين من مثل: هل سوف يسلمون المسيحيون يا مولانا؟ وهل يتشيع السنّة والدروز؟ وأجبنا بهدوء ورحمة وحكمة وصبرنا حتى لم نعد نسمع هذه الأسئلة التي عادت الآن الى التداول بطريقة أكثر بشاعة وخطراً. وفي كل ذلك كنا نراهن على أن الاساس والضمان هو إعادة بناء الدولة. وإن لم يكن دفعة واحدة، وإن لم تكن الدولة كاملة الأوصاف، لقناعتنا بأن الدولة الناقصة خير من اللادولة، وأي مفهوم من هذا النوع هو في حالة إنجاز دائم. ورأينا كيف بدأ التأسيس للدولة على قلق واضطراب محتمل دائماً... ولكن أهل الدولة في لحظة ما ظهر كأن الصادقين منهم قد راهنوا على عملية السلام الذي كان صعباً أو مستحيلاً على مستوى المنطقة بدءاً من فلسطين، وتباطأوا أو لم يعودوا يراعون المسلّمات الأساسية في عملية البناء، فذهبوا الى فراغ، وجدت فيه ذاكرة الحرب الطائفية أرضاً خصبة لها. وأخذ الحوار داخل الدولة أو السلطة يتحول الى سجال في طريقه الى الصراع ما حصل حتى انتهينا الآن الى مشهد اللادولة واللاإجتماع في طريقنا الى اللاوطن والعياذ بالله. لا أريد أن أتكلم عن السلاح وعن الشبكة أو المراهنة على الجوار وجوار الجوار، تمهيداً لاشتباك لبناني قد يقضي على كل شيء. هذا المشهد اللبناني الكئيب والمخيف يغري بالكسل والكف عن الرجاء، والأمل وتوقيف الحوار. أما أنا وأمثالي فليس لنا شغل إلا الحوار الذي نعمل عليه ونزيد كلما تعقدت الأمور أكثر لأن لا حل من دونه، ونحاول أن نجدده بالشباب وقضاياه والمرأة وقضاياها مع تكثيف العمل الميداني من خلال المخيمات الشبابية التي جربناها وأدرنا حواراتها حول العلاقة بين أهل الأديان ونظرة كل منا الى الآخر وصولاً الى قراءات في المذاهب المختلفة في هذا الشأن، وحول الدين والدولة والتعدد والوحدة وتنقية الذاكرة وتعديل صورة كل منا في نظر الآخر، بهدف منع الحرب أو تقليل بشاعاتها أو إيجاد مخارج لها عندما تنتهي بين الجماعات التي تتم الحرب باسمها وتنتهي على حسابها، لأنه لا سبيل الى حفظ ذاتنا وأهلنا وأحفادنا وأدياننا، وكل شيء ذي قيمة في هذه الحياة، إلا بالحوار الذي هو برنامجنا إن لم نستطع أن ننجز برنامجاً آخر من خلاله، وصمودنا عليه هو شفاء لنا ووقاية من الوباء المذهبي الذي يفتك بالأديان والأوطان والمواطنين كل المواطنين. وإذا كان الاختلاف قد نزل الى مستوى الخلاف وأصبح الصراع والاقتتال أمراً محتملاً بشيء من القوة، فإن الحوار يصبح أوجب ويصبح علامة شرف وطني لمن يصرّ عليه لأن لا مجال لتحقيق ذاتنا الفردية والجماعية إنسانياً ووطنياً إلا بالحوار وقد يعيش الواحد منا من دون عيش مشترك، ولكنها عيشة ناقصة وبائسة وعقيمة لأن الآخر شرط الوجود وشرط الحياة وشرط المعرفة وشرط الدنيا والآخرة. ختاماً، أعتبر أنني ومعي مجموعة من الزملاء في ورشة الحوار، أن استمرارنا في معاندة المشهد اللبناني وبعض أو أكثر المشاهد العربية، والانشغال بالحوار والاشتغال عليه شجاعة نستحق عليها بطاقة مواطنة غير قابلة للزوال أو النقص أو الانتقاص، وشهادة إيمان بالله يأتي من جهة الوطن وجهة المواطن ويمر بالدين ويصب في شرايين الطائفة لقاحاً ضد المرض الذي يأتي من الجمع غير الشرعي بين المذهبية والدين أو الوطن أو الدولة، ويصيب بالعدوى كل محيط المريض من أهل السكوت على المرض أو الرضا به أو كره المريض بدل كره المرض، لأن الأول سهل ولا يحتاج إلا الى الجهل، بينما يستدعي الثاني عملاً على المعالجة والوقاية تحتاج الى علم كثير وحب كثير وخوف من الله أكثر. سنبقى في خدمة صحة الوطن والمواطن، أطباء ومضمدين وممرضات ساهرات على لبنان حتى تسود العافية، وكلما انتشر الوباء أكثر أحسسنا أننا مطالبون بجهد أكبر. يقولون: ماذا أنتجتم؟ ونقول: لقد اخترنا أن نزرع نخلاً وزيتوناً لا خياراً أو بقلاً. في النهاية أتمنى وأرجو ممن لم ييأسوا حتى الآن مع كثرة دواعي اليأس أن تتحول أحزابنا الى أحزاب وطنية مدنية أو أن تتدبر لنا الأجيال الجديدة المتضررة من هذا البؤس الحزبي أحزاباً تكون للوطن والكيان والدولة رافعة قوية قبل النهاية الفاجعة أكثر من كل الفواجع السابقة واللاحقة، وإذا كان لا بد من اليأس فاليأس إحدى الراحتين كما يقول علي بن أبي طالب، علّنا باليأس نعود الى انتظار الفينيق يقوم من الرماد وتغلق أقبية الطوائف. * كاتب ورجل دين لبناني