الناس منشغلون بما يأكلون في صحونهم، ومهمومون. وحين يكتب روائي أميركي، شأن جوناثان سافران، كتابه"هل يجوز أكل الحيوانات؟"، يلقى الكتاب اصداء عميقة في الجمهور. فالمسألة تلابس انفعالاتنا، وتتناول ما يقرب بيننا وبين الحيوانات، وهو كثير! الخوف من الألم، والسعي في اللذة، والرغبة في الصحبة. وتنتهي معالجة سافران الى رأي عقلاني يندد بالآلام الحادة التي توقعها الصناعات الغذائية بالحيوانات، وبالنتائج الصحية والبيئية الخطيرة التي تترتب على أفعال هذه الصناعات. ويذهب سافران الى انه من المستحيل اليوم تفادي إيلام الحيوانات من غير ترك تناول اللحوم والتخلي عنه. فالمزارع الصناعية غايتها الاولى هي الربح، وإساءة معاملة الحيوانات يقتضيها تحصيل النتائج السريعة والمجزية والضرب صفحاً عن احتياجات الحيوانات ووتيرة نموها. وعلى هذا، فمن المستحيل أن يكون المرء آكل لحوم حيوانات"أخلاقياً". ويجدد الرأي هذا مناقشة قضية الحيوانات تجديداً ذكياً. والحق أن المعاصرين تشغلهم مسألة"أمة"الاحياء ورابطتهم. ولكن همَّ الحيوانات والعناية بهم، قديمان. وبعض الديانات مثل البوذية والجاينية الهندية صاحبة الدعوة الى ترك العنف في كل المعاملات، أو الفلسفات التي تعتقد التقمص والتناسغ، شأن الاورفية أو المدرسة الفيتاغورية، تناولت قضية معاملة البشر للحيوانات. وفيتاغوروس هو أول نباتي في الغرب، على ما يقول كثيرون. ويروي ديوجين لاييرسل أن فيتاغوروس مر يوماً برجل يعذب كلبه، فقال له"كف عن ضرب كلبك، ففي جسمه نفس رجل كان صديقي، وحين نبح تعرفت الى صوته". وأنا أرى أن تجدد السجالات منذ بضعة عقود، وتناولها معاملة تربية المواشي والطيور في المزارع وفي المختبرات، وتطرقها الى موضوعات قريبة مثل مصارعة الثيران او الفرو أو صيد الطرائد، هذا التجدد هو ثمرة التقاء ناشطي القضية الحيوانية ببعض المشاهير بريجيت باردو والفلاسفة بيتر سينجر والاحزاب السياسية التي قوننت بعض الافكار الاخلاقية الفسلفية. وحركة تحرير الحيوان خرجت الى العلن في ستينات القرن العشرين في بريطانيا حين عمد بعض أعضاء"رابطة مناهضي الرياضات العنيفة"الى اعتراض صيد الطرائد. وفي 1964، كتبت البريطانية روث هاريسون كتابها"الآلات الحيوانية"ونشرته. وهو أول تنديد بتربية الفراخ تربية صناعية. وفي 1967، أنشأ بيتر روبرتس، وهو صاحب مزرعة حليب في كونتية هامشاير، جمعية الحماية العالمية لحيوانات الحظائر". وعلى صعيد الافكار والنظريات، كان الفلاسفة المختصون بالأخلاق وأحكام العمل من أوائل من أولوا اهتمامهم هذه الحركة، وحملوا على محمل الجد المسائل والقضايا المترتبة عليها. وفي 1971، نشر 3 فلاسفة يدرسون بأوكسفورد، هم جون هاريس وستانلي وروسليند غودلوفيتش، كتاباً مشتركاً:"الحيوانات والبشر والاخلاق: تقص عن اساءة معاملة غير البشر". وفي 1975، نشر بيتر سينجر في الولاياتالمتحدة، كتابه"تحرير الحيوان". وما لبث كتاب سينجر أن ارتقى مكانة المرجع. ويذهب بيتر سينجر الى ان ركن الاخلاق هو مبدأ جيريمي بينثان:"ينبغي السعي في أكبر مقدار من السعادة وفي تمتع أكبر عدد به". و"العدد الأكبر"يتضمن كل كائن يحس بالألم واللذة، أي المخلوقات أو الكائنات الحساسة. وعلى وجه الاحساس، يستوي الحيوانات والبشر على قدم المساواة. وعلى البشر مسؤولية اخلاقية عن رعاية الحيوانات، والحؤول دون إنزال الاذى بها، وبلوغها المقدار المتاح من السعادة. ولا يقتصر سينجر على حصر الاخلاق ومعايير العمل في الدائرة الانسانية. ويقارن رفض احتساب مصالح الحيوانات بالتمييز الذي يصيب النساء أو السود. وعلى مثال الفيلسوف ريتشارد رايدي، أحد"جماعة أوكسفورد"، يذهب سينجر الى تسمية التمييز بين الانواع الحية ب"العنصرية النوعية". وهو يرى أن عدالة القوانين والافعال لن تبلغ إلا حين تحتسب مصالح الكائنات التي تتمتع بالاحساس كلها، من غير تقديم بعضها على بعض، وحين تقر الاجراءات المتفرقة على معيار تحصيل الخير والمنفعة للشطر الاعظم من الكائنات"الحسية"، وتجنب الايذاء فيها. والفيصل في المناقشة هو تعريف علاقة الحيوانات بالحقوق. فإذا سئل: هل للحيوانات حقوق؟ جاء الجواب بداهة ان للحيوانات حقوقاً تقر بها تشريعات عدد من البلدان. وتوجب هذه التشريعات طرائق معاملة الحيوانات، وتتوسع فيها يوماً بعد يوم. ولكن الموضوع يخرج عن هذا الاطار، اطار التشريعات والقوانين، حين يتناول السؤال"الحقوق"الاساسية وغير القابلة للانتهاك التي يفترض أن الحيوانات تتمتع بها بمعزل من اقرار الدول بها، على شاكلة"حقوق الانسان". فحقوق الانسان تسبق ارادة المشترع، وتحمل هذا على الاعتراف بها واجبات على العدالة اعتبارها، وسن القوانين بموجبها. والبشر وحدهم يتمتعون بمثل هذه الحقوق لأنهم وحدهم يدركون ما تعنيه الحقوق، واحترامها أو انتهاكها، وما أثرها في حياتهم ومصائرهم. والذرائعيون أو النفعيون، شأن سينجر، يوجبون"حقوق الحيوان"الاساسية، على مثال حقوق الانسان، في ضوء معيار الألم الذي يرسون عليه الارتقاء الى منزلة الذاتية الحقوقية. والحق أن التدقيق في نصوص سينجر، وآرائه وحججه، يقود الى حقوق يقر بها، وينُزل عنها، وليس الى حقوق سابقة ولا تقبل الانتهاك. ويترتب هذا على المسلمَّة الذرائعية الاولى التي لا تصون حقاً من الالغاء، بالغاً ما بلغ هذا الحق من المكانة، إذا اقتضت الإلغاءَ منفعة الشطر الاعظم. فالحيوانات لا تتمتع بحقوق لا يجوز انتهاكها لأن البشر لا يتمتعون بمثل هذه الحقوق. وسينجر، وأمثاله وأقرانه من الذرائعيين لا يعتقدون حقوقاً أصلية وثابتة، في عالمي الحيوان والانسان. وهما يتوسلان بها ويلوحان حجة راجحة في منازعة سياسية. وبعض الفلاسفة الاميركيين مثالهم مارتا نوسباوم، يذهب الى أن الحيوانات غير البشرية هم"اشخاص على معنى عريض"، ولهم على هذا، حقوق أصلية وثابتة. وهناك أنصار مذهب القيمة المحايثة"أو اللصيقة، وأبرزهم الفيلسوف الاميركي توم ريغَن. وهم يفترضون أن المخلوقات التي تختبر الحياة وتلابسها تتمتع بقيمة ينبغي احترامها، وينبغي الاقرار لها بحقوق أصلية وثابتة. والذاتية الحقوقية، على ما يرى هؤلاء، لا تترتب على المنفعة، بل على القيمة اللصيقة. وعلى خلاف الذرائعية، يوجب توم ريغن وأمثاله حقوقاً مطلقة وغير مقيدة، ولا يجوز وزنها في كفة ميزان المنفعة. وتتمتع الحيوانات والكائنات الحية بحقوق مطلقة على نحو حقوق الانسان ومثالها. وأنا أرى أن الاخذ برأي مارتا نوسباوم دونه معوقات وموانع. فمن العسير العثور على أثر للادراك الذاتي أو الانعكاسي، أو وعي النفس، أو أثر لفكرة المسؤولية تالياً، في عالم الحيوان. ولكنني، على مثال توم ريغن أرى أن للحيوانات قيمة. ويرتب هذا العناية بها، والحرص على تجنب ايذائها. وفي هذا المعرض، يجب معالجة مسألة الالم الذي ينزل بحيوانات المزارع والحظائر، على ما يدعو جوناثان سافران فووير إليه. وحري بالمزارع والحظائر أن ترعى تربية الحيوانات وتعتني بنقلها وموتها. وعلى خلاف دعاة حقوق الحيوان، لا أزعم أن للحيوانات حقوقاً غير تلك التي تقر لها بها التشريعات والقوانين. فقيمة الحيوانات المحايثة أو اللصيقة ليست مطلقة. والكائنات التي تتمتع بقيمة ذاتية ومطلقة في آن هي الكائنات البشرية. وليس لكائنات غير البشر قيمة أخلاقية تامة تستتبع حقوقاً وواجبات هي نتيجة المسؤولية الاخلاقية. ولا يقتضي ارساء واجب اخلاقي بإزاء كائن من الكائنات افتراض تمتعه بحقوق أصلية وثابتة. ويكفي أن تنسب اليه قيمة أخلاقية. فالعمل الفني، على سبيل المثل، لا يتمتع بحق من الحقوق. ولكن تدميره عمل بربري لأن قيمته ذاتية ولصيقة به، ولا تقتصر على صفته العملية والذارئعية. وليس للغابة حق، على المعنى الذاتي، ولكن اقتلاعها عمل مدان إلا اذا ناقض حفظها قيمة تفوق قيمتها. فالكائنات الارضية لا تتمتع كلها بقيمة أخلاقية واحدة. وقيمة الحيوانات لا تقاس على قيم أخرى قد تخالفها وتناقضها. وإذا حصل هذا، عاد الى الانسان روز القيم الاخرى المخالفة او المناقضة، واختيار القيمة الاعلى. وحمل الكائن على المكانة التي تعود اليه هو معيار الميل الى العدالة. والاستثناء البشري هو ركن مسؤوليتنا عن الحيوانات والكائنات الاخرى، والحية أو الجامدة التي نقر لها بقيمة. وينبغي، اليوم، تربية الاولاد منذ الطفولة على المسؤولية عن احترام ما له قيمة، وعلى تجنب الاساءة، قدر المستطاع، الى الاشياء القيمة، وعلى الاخص الى كائنات تحس الألم وتشعر به. ويقود هذا الى وجوب مساعدة البشر على تمييز مراتب الضرورات والاولويات الاخلاقية والعملية. فإلى اليوم لا يزال نصف البشر يعيشون تحت حد الفقر، وخمسُهم تحت حد العوز الشديد. والحروب والنزاعات والزلازل والاعاصير المدمرة والكوارث، الطبيعية أو غير الطبيعية، تدمر حيوات بشر، وتجبر جماعات كاملة على الهجرة، وينجم عنها مشكلات صحية مستعصية. وعلى هذا، فمعايير العدالة التي ينصبها البشر ويحتكمون اليها بعيدة من الاستيفاء العملي. فالشاغل الاول هو القصد الى حقوق الانسان واستيفائها. * فيلسوفة اسبانية، استاذة في قسم فلسفة الاخلاق والسياسة في جامعة بَلنسية، عن"بوكس"الفرنسية، 5/2011، اعداد م. ن.