ما إن هدأ ضجيج الثورة التي أشعلها الحيوانات في قصة "مزرعة الحيوان" على المزارع جونس وانتهت بإقصائه وكل من معه من البشر من المزرعة واستقلال وانفراد الحيوانات بإدارة شؤونها، ما إن خَمَد هذا الضجيج حتى تبيّن للحيوانات - مجتمعةً في كفّةٍ واحدة - أن حليب أبقار المزرعة والتفاح المتساقط من أشجارها أصبحا من نصيب الخنازير وحدها، شاغلةً الكفة الأخرى وشاغلة من دون مشاركة مواضع الإدارة والأمر والنهي في المزرعة. كانت جميع الخنازير على اتفاق جلي حول هذا الأمر بما فيها "نابوليون" و"سنوبول". وأرسلت أحدها "سِكْويلَر" لمعالجة الأمر، فقال: "أيها الرفاق لا تحسبوا أننا قد أقدمنا على هذا بدافع من الأنانية والتميّز. الحقيقة أن كثيرين منا لا يحبون الحليب والتفاح. أنا نفسي لا أحبهما. هدفنا الوحيد من أخذ هذه الأشياء هو الحفاظ على صحتنا. الحليب والتفاح وهذا أمر أثبته العلم أيها الرفاق يحتويان على مواد لا غنى عنها لسلامتنا. هكذا يتحسّس جورج أورويل، وهو الاسم القلمي الذي اتخذه لنفسه إرِك بلير 1903-1950، الأوتار الأولى لأحد هواجسه المهمة في هذه الرواية وهو قضيّة انحراف الثورة الى أيدي أبنائها، وهاجساً آخر هو ميل السلطة والسيطرة على زعزعة وإفساد من يجتمعان في أيديهم. ولد أورويل في محيط عائلي إنكليزي متنفذ في الهند المستعمرة بريطانياً آنذاك. لكنه تلقى علومه الأولية في كلية إيتون، وهي مدرسة لأبناء الطبقة المتنفّذة أو الحاكمة في انكلترا. يرتادها في عصرنا الحالي الأميران وليم وهاري إبنا الأمير ولي العهد البريطاني. إلا إن انتماءه الطبقي لم يَحُلْ دون تبنّيه الاشتراكية هيكلاً للحكم. أما ما تبنّاه من الاشتراكية فهو شكلها الأخلاقي وما يسمى في المألوف الاشتراكية الديموقراطية، التي وجد فيها أداةً لتحقيق المساواة وحرية الفرد واستقلاليته. تختلف الآراء حول موضع النبوغ لدى أورويل، إذ طرق هذا الكاتب أشكالاً ثلاثة متباينة: أولها يمكن أن يسمى الوثائقيات مثل "في تبجيل كاتالونيا" و"النُزول إلى باريسولندن"، ثم المقالة مثل "قتل فيل"، بالإضافة إلى مقالاته الصحفية التي استمرت سنين في صحيفة "تربيون" أثناء وبعد عمله محرراً أدبياً فيها. يضاف إلى هذه الأشكال، الشكل الثالث وربما الأهم وهو الرواية، مثل عمَلَيه المشهورين "مزرعة الحيوان" و"العام 1984". كتابته الصحافية تمثل المقالة الانكليزية في أرقى أشكالها، فيما يعتبر عمله النقدي عن ديكنْز محطة لا بد منها لدارس هذا الروائي الإنكليزي المعروف. أما أعماله الروائية "مزرعة الحيوان" و"العام 1984" فيظنها بعضهم من الجسامة بحيث أن أعماله الأخرى إنما اكتسبت شهرتها لأنه كتبها قبل هاتين الروايتين. إلاّ أن بعض النقاد يرى أنه ليس من باب خدمة الحقيقة رفعه عند التقويم إلى طبقة جيمس جويس وهنري جيمس مثلا. ما يقارب الفرادة التي يمثلها الرجل لا يكمن في تعدد الأشكال الفنية التي تناولها أو القيمة لأي منها إنما يكمن في موضع آخر، لعل أورويل نفسه أقرب المعلّقين فيه إلى الصواب. كتب في مقالته "لماذا أكتب" في 1946: "ما أردته بالدرجة الأُولى خلال السنين العشر الماضية هو أن أُحوّل الكتابة السياسية إلى فن، مكان انطلاقي دائماً هو إحساسي بواجب الدفاع وإحساسي بالتعسّف وبالظلم. عندما أجلس للكتابة لا أقول لنفسي انني سأكتب عملاً فنياً لذاته بل سأكتب لأن هناك كذبة ما أريد أن أُعرِّيها، لأن هناك حقيقة أريد أن أجلب الانتباه إليها، وهمّي الأول هو أن يكون لي مستمع. لكني لم أكن لأكتب كتاباً أو حتى مقالاً مطولاً في مجلة لو لم يكن ممارسة جمالية في الوقت نفسه". وإذا كان همه الأول هو تحويل الكتابة السياسية إلى فن ويقصد بها هنا الكتابة التي تحتوي على محاولة للتغيير السياسي، محاولة لبسط نفوذ فكرة سياسية بعينها دون سواها، ومحاولة للتوعية التي يتطلبها التغيير السياسي. فإن من المهم الإشارة إلى نقطتين: أولاهما أن هدف الإيصال والتغيير السياسي أو التوعية السياسية كان العامل الأكبر في فرض شكل الكتابة المباشرة الواضحة الجليّة التي تميّز بها هذا الكاتب أبّان نضوجه الفني. ولعل من المناسب التأكيد مرة أخري هنا بأن هناك ما يُشبه الإجماع على أنها كتابة فنية رفيعة، ترتبط جوهرياً بالحرف الانكليزي، تحترمه وتعشقه، ولا بد أن ذلك مما هيأها للجدارة أن تغدو مادة للدرس في مواضع مختلفة من العالم كنماذج للقول الفني الإنكليزي المعاصر. ومما يصلح مادة للتأمل والاتعاظ أن تبنّيه للسهولة لم يكسبه قراء من الطبقة الانكليزية العاملة أو من أسفل الوسطى كما كان يأمل ويستهدف، إلا بعدما ذاع صيته وصارت قراءته حتماً لكل من يهتم بالأدب. النقطة الثانية التي تجب الاشارة إليها عند ملاحظة هدفه في تحويل الكتابة السياسية إلى فن هي أنه على رغم تحمّسه لتوجه سياسي معيّن بذاته الاشتراكية الديموقراطية كان ديموقراطياً إلى أعلى درجات الإيمان بالاختلاف والقبول بالآخر المناوئ والمعارض والتعايش معه، إيماناً يتجاوز القبول الخامل غير المكترث بالآخر إلى الدفاع الصادق إذا هُضِمَت حقوق هذا الآخر. ومن الأمثلة الجميلة أنه على رغم رفضه الشاعر إزرا باوند الذي كان يذيع للفاشيين أثناء الحرب العالمية الثانية وعلى رغم إدانة أورويل القاطعة الحديّة له، إلا أن ذلك لم يمنعه من الكتابة عندما كان إزرا باوند في صدد الحصول على جائزة أميركية في الشعر بعد الحرب العالمية الثانية، أنه "على رغم أن إزرا باوند مثير للغثيان في مواقفه الأخلاقية إلاّ أن شِعْره يستحق الجائزة". نعم إن العجوز إزرا كان يجيد الغناء. هل ظفر جورج أورويل بما نَصَبَه لنفسه من هدف؟ الإجابة المباشرة على مثل هذا التساؤل تتطلب الافتراض أولاً أن الكتابة السياسية كفَنّ بتعريفها وبمظاهرها المذكورة أعلاه، لم تكن يوماً شكلاً مطروقاً ومتداولاً في الأدب الإنكليزي، لكي يتمكن امرؤ أن يطمح إلى الإتيان بها أولاً ثم الإتقان لها والتفوق بها ثانياً. ولما كان من الصعب التحقق من مثل هذا الافتراض، لوجود أشكالٍ للكتابة السياسية الفنية، مشابه - كحد أدنى - لمواصفات الأدب السياسي المطروقة آنفاً فإن من الحق اللجوء إلى طريقة غير مباشرة للإجابة عن تساؤلنا. مثل هذه الإجابة تكمن في قول البروفسور برنارد كرك - وهو صاحب أهم سيرة حياة مكتوبة عن أورويل - ما تأويله انه إذا كان كتاب لفياثن يمثل أرقى مَثَل في النثر الانكليزي الباروكي - وهو كتاب للفيلسوف السياسي توماس هوبس 1588-1679 - وكان كتاب كولِفَر للأديب الايرلندي جونثان سويفت 1667-1745 أعلى مثل للنثر الانكليزي الفني السياسي في العصر الأُوغستي فإن كتاب "عام 1984" لجورج أورويل - وعلى رغم عدم كونه أفضل نثر إنكليزي معاصر - هو أفضلُ نموذج للكتابة الانكليزية لأكثر من مئة سبب. صفحة 26 من سيرته. يمكن استقراء موقف أورويل من الانتماء السياسي عموماً من كتاباته المتكررة بهذا الصدد مثل: "بإمكان الكاتب أن ينتمي الى أي حزب سياسي لكن عليه أن لا يكتب لهذا الحزب"، ومما كان يقوم به من انتقاد ساخط للتيار السياسي الذي كان منتمياً إليه - أي حزب العمال البريطاني. مثل هذا الموقف يعطي الكاتب حرية الانتماء والعمل السياسيين لكنه يرتفع به عن أن يكون بوقاً لهذا التجمع أو ذاك. بل، وهو الأهم، انه يعيّن للأديب والكاتب موقع المراقب والمصلح والمنَبّه تجاه الانحرافات المشابهة للحتم التي تطرأ على أيديولوجيّة التيارات السياسية أو على تجسُّدها العملي الميداني. وقد يكون لمثل هذا الدور أهميّة أبعد من كونه "واجباً" يقع على عاتق الفنان، تتجسد في كونه أحد الآليّات التي يتحاشى من خلالها المجتمع الفساد الذي تخلعه القوة على صاحبها والسلطةُ على ممارسها . الوطنية والقومية من تمييزاته التي تصلح خطاً أخلاقياً في سياسة العصر وحركة الشعوب والأفراد فيه، هو تمييزه بين الوطنية كحب للأرض التي يعيش عليها وينتمي إليها الانسان "وعليه فإن كل من ينشأ على هذا الحب فهو وطني". وبين القومية كفكرة تتضمن الاحساس أو الأيمان بالتفوّق على القوميّات الأُخرى "وعلى ضوئها تتكون الدولة من قومية واحدة أو قومية سائدة تسعى لاستثناء أو تهميش القوميات الأخرى أو المجاورة". فهو وطني لكنه ليس قومياً، مؤكداً هذا المفهوم الإنساني دون تفصيلات نظرية - كما هو مألوف بالنسبة إليه - تبني هيكلاً عقلياً له. كل هذا مع اعتزازه بإنكليزيّته وبحبه الشديد للغته. ومن الطريف أن أسلوبه المتميّز السهل الذي تبنَّاه خلال سِنِيِّ نضوجه الفني كان موجوداً جنباً إلى جنب لمدة عشر سنوات مع أسلوب أكثر طلاوةً وزخرفاً. ويبدو أنه كان يعتبر أسلوبه المبسّط طريقة استهلاكية وغير متأنية للكتابة قبل أن يتّخذه نهجاً ليصبح هذا الأسلوب جزءاً من شخصيّته الفنية مميزاً لها وضامناً لها مرتبتها المرموقة. مزرعة الحيوان تُعتبر هذه القصة أول أكبر عَمَلَين روائيين للرجل. كتبها في 1944 في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا وروسيا حليفتين في الحرب العالمية الثانية في مواجهة النازية. وأدى هذا التحالف إلى أن واجه أورويل صعوبة في نشرها، ذلك أن مَنْحاها الساخر في الحدث السياسي السوفياتي آنذاك كان أشدَّ سخونةً من أن يَتناوله الناشر البريطاني والحرب لمّا تضعْ أوزارها. وهي حكاية حيوان تقتفي بحرص الأحداث في الاتحاد السوفياتي منذ ثورة 1917 حتى عزل تروتسكي وتمكن ستالين من السلطة مُحْكِماً قبضة الحزب الواحد على الحياة والمجتمع تحت زعامته. تتلخص هذه "الملحمة" الهادئة الصغيرة في أن وعي الحيوانات في مزرعة ما وصل من الوضوح والتحديد بحيث أصبحت الثورة - في ظلّ التسلط المطلق للمُزارع جونس ومستخدَميه من بني البشر- فعلاً يتأرجح بين المحبّذ المأمول وبين الحتم المنتظر. وكان لها ما أرادت بعد غليان قصير لسخَط الحيوانات إثر إهمال أمرها ما أدّى إلى إجاعتها. قادت الخنازير باعتبارها الأذكى هذه الثورة وسرعان ما شرّعت الحيوانات وصايا كُتبت في لوح علّق في موضع مرئيٍّ في المزرعة، كانت ستلوّن حياتها: 1- ما يسير على قدمين فهو عدو . 2- ما يسير على أربعة أو له جناحان فهو صديق. 3- لا يجوز للحيوان لبس الثياب. 4- لا يجوز له النوم على فراش. 5- لا يجوز له شرب الخمر. 6- لا يجوز لحيوان قتل أي حيوان آخر. 7- كل الحيوانات متساوية. ولعل مُراد جورج أورويل من هذه القصة متعدد الوجوه. فهو أرادها تصويراً لخيانة الثورة أي خيانة أبنائها لها. كما أراد منها إشباع أحد مواضيعه المفضلة وهو قضية ميل السلطة إلى إفساد رجالاتها بالإضافة إلى الإشارة إلى تشويه وتخريب اللغة كوسيلة لتمرير وتبرير ممارسات وانحرافات هذا المتسلط، بحيث تفقد اللغة معانيها وتبهُت حدودها. ومن شواهد انحراف صاحب السلطة هو الانحطاط التدريجي الذي أصاب سلوك الخنازير باعتبارها صاحبة الفكر والقيادة في الثورة. فسرعان ما انفردت هذه بحليب المزرعة على أساسٍ من الكذبة التي صدّرنا بها هذا المقال، ثم دخولها بيت المزرعة الذي أخلاه جونس لتلبس الملابس وتنام في الأسرّة. حينها لاحظت الحيوانات بين الذهول والتسليم أن الوصايا كانت تتغيّر. فتحول عدم النوم في سرير إلى عدمه في سرير ذي شراشف، وعدم شرب الخمر إلى تحاشي الإسراف فيه، ثم تحول تحريم قتل الحيوانات الأخرى إلى عدم قتلها من دون سبب. التغيير الأخير كان بعد إقصاء الخنْزير سنوبول موازياً لتروتسكي من الخنْزير نابليون موازياً لستالين، وإلصاق تهم الخيانة والتخريب به، ثم هجوم الكلاب التي دربها نابليون في اجتماع وعلى مرأى من بقية الحيوانات على أربعة خنازير شابة كانت تحتج على هذا العمل أو ذاك من أعمال نابليون، وتمزيق رقابها بين أنياب هذه الكلاب. ماتت هذه الخنازير بعدما اعترفت بطبيعة الحال بأبشع الجرائم - كما يجب أن يحدث عند من يعارض الطاغية - واعترافها بالتعاون مع الخنزير القيادي الهارب على رغم ما قد يكون من وجوده الشبحي لا الحقيقي. طريقة القص باستعمال الحيوان، له كما يمكن التوقع مساوئه - كما أن له مسوّغاته - لاستحالة التطابق التام بين البشر المُشَبَّه والحيوانات المشبَّه به . إلا ان أورويل تعمّد من هذا التقابل على ما يبدو، تجسيد عدم قدرة العامة على استقراء الحدث السياسي والتبصّر به. وكذلك حاجة العامة يوازيها الحيوانات من قاطني المزرعة من غير الخنازير للتعلق بأمل حكمة القيادي منها وتخريج أخطائه وعيوبه تخريجات تُزَوّقها وتخفيها. لم يسمح أورويل لأي من الشخصيات بالنمو الذي يمكِّن القارئ من تناولها تناولاً معمّقاً أو مشاهدة تفاصيلها النفسية عن كثب. لكن ذلك قد لا يعود إلى شكل الحيوان فيها بقدر ما يعود إلى رغبة المؤلف نفسه تحاشي التفصيلات من أجل التركيز على الهيكل العام ومراقبة المشهد ككل بدلاً عن دراسة تفاصيل جدارٍ ما مثلا. مثل هذا التناول يخدم ولا شك منحاه الإرشادي التبليغي DIDACTIC الذي يتناسب مع هدفه الذي أعلن أنه يبتغيه وهو تحويل أدب الكتابة السياسية إلى فن. تتوزع القصة شخصيات متباينة تختلف في مستويات وعيها وفي ميولها واستعداداتها ومصائرها. فالفرس مولي لم تستطع على رغم الثورة وزهدها التخلص من ميلها الى اشرطة الزينة وقطع السكَّر التي كانت تحظى بها من جونس ورجاله، الميل الذي ادى إلى استدراجها أخيراً خارج المزرعة لتستأنف "استعباد" بني الإنسان لها. فيما لم يستطع ضجيج الشعار إخماد حذر واحتراس البغل المسن بنجامين الذي احتفظ بموقفه المتشكك الصامت الهادئ السخريّة إلى نهاية المطاف. قصة طريفة جميلة تنتهى بتخريب مستخفٍّ متجبّر شرير للغة تتحول به الوصية الأخيرة إلى "كل الحيوانات متساوية لكن بعضها أكثر تساوياً من غيره" ثم تحوّل الخنازير إلى هيئة بني البشر العدو التقليدي المتسبب في معاناة الحيوان. ألف وتسعمائة وأربع وثمانون صدرت للمرة الأولى في 1949 أي قبل وفاته بحوالي سنة. تعتبر ثاني عمل كبير لكاتبٍ هو أحد الذين ارتقوا إلى القمة الصعبة في الأدب الإنكليزي. أثارت حين صدورها ردود فعل مختلفة وتعرضت لتفاسير متباينة بشدة، مما حدا بالمؤلف إلى أن يصدر بياناً صحافيا يوضح فيه موقفه وما أراد للقصة أن تشير إليه. هذا البيان يشبه بعض ما يراه البروفسور برنارد كرك صاحب السيرة الذاتية المشار إليها من أن رواية "1984"، هي تحذير مدروس عقلاني ضد النَزْعات الشمولية الحزب الواحد المستأثر بالسلطة والمهيمن على تفاصيل وجوانب الحياة، في مجتمع كالمجتمع الغربي، وهي ليست نبوءة عن سيطرة مفاجئة قادمة للاتحاد السوفياتي، آن ذاك، أو للنازية الجديدة، وهي علاوة على ذلك، ليست صرخة يأس من أو رِدَّة عن ديموقراطية أورويل الاشتراكية، كما ظن بعضهم. جو القصة المغلق القاتم يمتلك ويستلب وجدان القارئ حتى النهاية . ويصعب إيصال مثل هذا الجو عبر مقطع مترجم وإن طال، فهو تَوَصّل بالتراكم عبر توالي القص. ويظهر أورويل فيها خيالاً مفصلاً أكثر منه خيالاً نفسياً، لكنه خيالٌ من مرتبة عُليا في كل الأحوال كما يقول كْرِك. وصدقية هذا الانطباع سهلة التوالد في نفس القارئ وتتأتى من الوصف التفصيلي للبناء الاجتماعي لكل فئات الناس الذي يطرحه أورويل بطريقة متماسكة منطقياً الى درجة تكاد توهم بالعلمية المتقنة المحايدة. ما كانت المواقف حدية الصلاح والفساد بيضاء وسوداء كما يسميها التعبير الإنكليزي، لكنها كانت إنسانية متداخلة شاحبة الحدود. فالشخصية الرئيسة في الرواية ونستون سميث الذي يطّلع القارئ على دواخله بحكم منهج السرد، ويمثل الوعي المؤمَّل في خرق هذا الكابوس، لا يتوانى في موضع معين عن إعلان استعداده لارتكاب جرائم بشعة وسيلةً للوصول إلى غايته. إلاّ أن هذا الجو الضنك الخانق الذي يراقب فيه "شرطة الأفكار" الأنفاس وخلجات الأوجه ومعاني النظرات - ناهيك عن الأفعال - والذي يختفي فيه أيّاً كان من دون انذار سابق ومن دون أن يجرؤ أحد من محيطِيه على الاشارة الى غيابه، في هذا الجو تلمع قليلاً شموس خافتة للحظات تذكرنا بجمال الأشياء والحياة. فحين لجأ وِنْستون وجوليا صديقته عند لقائهما الأول إلى الريف خارج لندن خشية أن يُرَيا سويّةً، فاجأهما على مقربة طير غريد ولأستعمل لغة مبسطة مباشرة تقابل تلك التي يستعملها أورويل: "حطّ على مقربةِ حوالي خمسة أمتار منهما، في مستوى وجهيهما تقريباً. ربما لم يَرَهما . كان في ضوء الشمس وكانا في الظلّ. نشر جناحيه ثم طواهما بعناية مرة أخرى. خفض رأسه للحظة كما لو كان يقدم لوناً من التمجيد للشمس، ثم بدأ يسكب تياراً من الغناء. في هذه الظهيرة كان الصوت مهيبا. أمسك ونستون وجوليا ببعضهما اندهاشا. وامتدت الموسيقى وامتدت لحظة تِلوَ أخرى، بتنوعٍ غريب، غيرَ مكرِّرةٍ نفسها قطّ وكأن الطائر يريد إظهار فنونه. قد يتوقف لثانية، ينشر جناحيه ليطويهما مرة أخرى، ثم ينفخ صدرَه المُنَمنمَ ليتصاعد غناؤه. راقب ونستون ذلك بنوع من التبجيل الخفي. من أجل مَن ومِن أجل ماذا كان الطائر يغنّي؟ لا رفيق ولا غريم يراقبانه. ما الذي جعله يجلس في أطراف الأرض المُشجِرَة، ليصب موسيقاه في الخلاء؟".