نشرت مجلة "الفلسفة الآن" مجلة شهرية تصدر بالإنكليزية في لندن في عددها الرقم 23، تشرين الأول اكتوبر/ تشرين الثاني نوفمبر 2003، تقريراً عن المؤتمر العالمي الذي استمر سبعة ايام وشارك فيه ألفان من المشتغلين بالفلسفة والذي عقدت جلساته اربع جلسات في وقت واحد طوال اليوم في قاعات مركز المؤتمرات بالقرب من ميدان تقسيم في اسطنبول، في آب اغسطس الماضي. ويشير محررا التقرير انجا شتينبور وريك لويس، الى ان المؤتمر يعقد مرة كل خمس سنوات. ومن الطرائف على هامش المؤتمر، ما حدث للفلاسفة الروس. فقد حضر المؤتمر مئتا روسي مشتغل بالفلسفة على متن سفينة اخترقت بهم بحر البلطيق في طريقها الى اسطنبول وأطلق على السفينة اسم "سفينة الفلسفة" في إشارة ساخرة الى واقعة مماثلة حدثت، وإن في سياق مغاير، عام 1922 حينما جمع لينين الفلاسفة غير الشيوعيين في سفينة وطلب منهم مغادرة البلاد وألا يعود احد منهم الى روسيا، إلا اذا كان يرغب في إعدامه، وقد عرفت السفينة وقتها بأنها "سفينة الفلسفة". وكان من بين الفلاسفة الكبار الحاضرين: جورجون هابرماس وبيتر سينجر وجياني فاتيمو وكوازي ويريدو. وكان العنوان الرئيسي للمؤتمر هو "الفلسفة تواجه مشكلات العالم" حيث غطت الأبحاث مواضيع مثل: "حقوق الإنسان"، و"التطورات الجديدة في العلم والتكنولوجيا"، و"عدم المساواة والفقر والتنمية"، و"الأخلاقيات في ظروف الطوارئ" وقد جاء المتحدثون في هذا الموضوع من كل من فلسطين وإسرائيل، وكذلك مواضيع مثل: الحرب والطاعون، والمجاعات، والوفيات، اضف الى ذلك العديد من المواضيع المتعلقة بالأزمات العامة، مثل: "اللاعقلانية في جماليات القرن الثامن عشر" و"العودة الى قابلية الدحض". وخصصت الجلستان الافتتاحية والاختتامية لموضوع السلام والعدل حيث تعرضت الولاياتالمتحدة الأميركية لكثير من الانتقادات لمواقفها الراهنة تجاه مشكلات العالم. وقدم هابرماس مقارنة بين انماط العلاقات الدولية المختلفة، بما فيها نموذج كانط، والموقف المثير للجدل لكارل شميت، وكذلك الموقف الأحادي الجانب الذي تتخذه اميركا. وكان شميت اتخذ موقفاً ضد الإدانة الأخلاقية للحروب، ذاهباً الى ان الخطأ والصواب في مثل هذه الأمور صعب التحديد، وأن من شأن الغضب الذي يستثيره الدافع الأخلاقي تجاه الحروب، وهو غضب يستبد بالطرفين كليهما، ان يحول دون توقف الحروب بل يعمل على إشعالها باستمرار. فهو يؤمن بأن الحق في شن حرب ما يجب ان يحظى بموافقة المجتمع الدولي وأن يتم تحت مظلة الدستور الدولي - بمعنى ان الجماعة الدولية تسمح لدولة ما ان تشن حرباً على دولة اخرى اذا توافرت شروط معينة دون محاولة إصدار حكم اخلاقي على موضوع الحرب في حد ذاته. على ان هابرماس نفسه يتبنى بقوة الموقف الكانطي: الذي يرى ان في مثل هذه الحالات يجب الالتزام بكل من الاعتبارات الأخلاقية وأحكام الدستور الدولي إذ يجب ان يكونا هما المعيار الذي يحدد موقفنا تجاه مسألة اعلان الحرب. لكن هابرماس يعتقد ايضاً ان اميركا ربما تجد نفسها ميالة لأخذ رأي شميت وأن ذلك لو حدث فربما يكون على الأقل خطوة الى الأمام بالنسبة الى موقفها الحالي الذي يتسم بالأحادية. "فالمسألة لم تعد مسألة ما اذا كان العدل بين الأمم ممكن الحدوث اصلاً، بل اصبحت ما اذا كان القانون هو الوسيط الملائم لإقامة مثل ذلك العدل". وهو يذكر بأننا ربما كنا محظوظين لأن القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم هي دولة دستورية ديموقراطية، الأمر الذي قد يجعل من الممكن ان تعود حكومة الولاياتالمتحدة مستقبلاً الى "رسالتها الأصلية بصفتها اول امة أرست دعائم الدستورية في السياسة الدولية". وأفسح المؤتمر مجالاً واسعاً للقاءات بين مراكز الأبحاث غير الحكومية مثل "جمعية الدراسات الخاصة بالفلاسفة النساء" و"الجمعية الدولية لأبحاث القيمة" و"الرابطة الدولية لجمعيات ياسبرز" وهي الأكثر طموحاً، والتي عقدت مداولاتها في فندق هيلتون المجاور لمركز المؤتمرات حيث استغرقت مناقشاتها سبعة ايام خصصت للبحث في افكار وإشكاليات الفيلسوف والسيكولوجي الوجودي كارل ياسبرز. ورعت مجلة "الفلسفة الآن" جلسة في عنوان "الفلسفة وجمهورها" حيث شارك الجميع، منصة وقاعة، في مناقشة الطرق التي من شأنها توصيل الفلسفة للناس في الشارع. فتحدثت انجا شتينبور عن اللقاءات التي عقدتها "جماعة الفلسفة للجميع" مع جماهير لندن، بينما تحدث ديفيد وايت عن تكوين جماعات نقاش فرعية، متخذاً مثالاً ما قام به هو نفسه حين اسس جماعة برتراند راسل الواسعة النشاط في كل من روشستر ونيويورك. واتسمت الأوراق التي قدمت في المؤتمر العالمي بأنها كانت شيقة وتتناول وقائع ملموسة. فقد ألقى بيتر سنجر محاضرة وصف فيها المواقف المختلفة تجاه حقوق الحيوان وتجاه مسألة إحداث الوفاة عمداً رحمة بالمرضى الميؤوس تماماً من شفائهم او المتوفين اكلينيكياً، لكنه لم يحدد طبيعة المشكلة في الحالين. وثمة استثناء يقدمه محررا "الفلسفة الآن" باحتفاء شديد، هو آلان جيرث من جامعة شيكاغو. إذ قدم محاضرة عن اسس حقوق الإنسان فتحت افقاً جديداً في ذلك الموضوع الذي لم يجد له تأسيساً مقنعاً الى اليوم. وقد بلغ اهتمامهما بهذه المحاضرة الى حد تقديم عرض موجز لها بصورة مستقلة. يبدأ جيرث حديثه مشيراً الى قول افلاطون ان العدل يعني إعطاء كل شخص ما يستحقه تماماً، وحقوق الإنسان مستحقة لكل البشر، ببساطة كونهم بشراً. فهل يمكن البرهنة على ان هناك بالفعل حقوقاً مستحقة للبشر من حيث هم بشر؟ هناك طريقتان للإجابة عن هذه المسألة: الأولى حدسية، حيث نرى بوضوح ان هناك حقوقاً مستحقة للبشر بما هم بشر. والثانية استدلالية، وقد يكون الاستدلال دينياً مبنياً على اننا جميعاً ابناء الله، أو علمانياً تتعدد فيه النظريات. وجيرث يقدم نظرية تنتمي الى هذا النوع. اذ يذهب الى اننا حينما نقول ان شخصاً ما له حق في شيء معين فإننا نتحدث داخل سياق محدد هو الفعل الإنساني. فالأخلاقيات تتعلق بأنماط السلوك اي الأفعال. والفعل الإنساني له شروط يجب توافرها كي يمكن له ان يتحقق. وهذه الشروط هي التي تبرر لنا الانتقال منطقياً من "إنسان" الى "إذاً له حقوق معينة". والفعل يتطلب شيئين ليتحقق: اولاً الحرية استقلالية ذاتية ناتجة عن اختيار غير قسري في ضوء معارف معينة، وثانياً الغرضية اي وجود هدف ما مطلوب تحقيقه. وتحقق الغرضية يشترط حال لياقة معينة جسدية ومعنوية وعقلية. وعلى ذلك يصبح لدينا قضايا منطقية: 1- كل فاعل عليه ان يعتبر ان الحرية واللياقة الشخصية شرطان ضروريان للفعل. 2- ان يعتبر الحرية واللياقة الشخصية حقوقاً 3- ان يقبل ان ينتزع آخرون منه احد هذين الشرطين او كلاهما. على ان 3 تتناقض مع 1، وبالتالي فكل فاعل عليه ان يقبل 2 حتى يتجنب الوقوع في تناقض. ولما كان امتلاك حقوق يستلزم قبول واجبات مقابلة، يصبح على الفاعلين ان يعترفوا بالحقوق نفسها للآخرين. * كاتب مصري.