المشهد العراقي في الأيام التي سبقت الخامس والعشرين من شباط فبراير كان مفجعاً على رغم ما اكتنفه من صور ذات طابع كاريكاتوري، لكنه تحول في ذلك اليوم تحديداً الى مشهد مغاير تماماً من حيث دلالاته ونتائجه وما يترتب عليه، وأيضاً من زاوية تقويم الوعي الشعبي العراقي في هذه المرحلة الدقيقة. فدعوة مجموعة شباب مغمورين عبر شبكات التواصل الاجتماعي الى تظاهرة في بغداد والمدن الأخرى للمطالبة بالخدمات المفقودة وإصلاح النظام لم تكن لتثير الذعر الذي أثارته في الأوساط الرسمية العراقية لولا أن تجربتي تونس ومصر أسستا على المدى الطويل لوضع الحكام في ميدان الذعر الدائم. لكن العراق بلد"ديموقراطي"كما هو المعلن و"فوبيا"مبارك وبن علي يفترض أن لا يشعر بها زعماء جاؤوا الى السلطة بواسطة صناديق الاقتراع. الأيام التي سبقت ما بات يطلق عليها"جمعة الغضب العراقية"نبهت الى أن توجهاً جديداً في التفكير الجماهيري يتبلور في العراق ويتلاقى فيه شباب شيعة وسنة وأكراد على قاعدة واحدة، وهذا التوجه لا يطالب بإسقاط النظام السياسي بل إصلاحه بعد أن وصل الى طرق مغلقة على جميع المستويات. في المقابل فان تلك الأيام كشفت الهوة الكبيرة التي تفصل الوسط السياسي العراقي عما يحدث خارج"المنطقة الخضراء"ما ترجمه المشهد الفضائحي لنزوح بعض السياسيين العراقيين الى الخارج أو تهريب عائلاتهم الى ما بعد أسوار المنطقة الخضراء. الحكومة العراقية كانت مقتنعة كما يبدو وكما بينت كل خطابات ورسائل رئيسها أن هناك مؤامرة تحوكها جهات خارجية بالتعاون مع البعثيين و"القاعدة"للإطاحة بنظام الحكم بل إن رئيس الحكومة العراقية وصف التظاهرة بأنها تمت بدعوة من البعثيين والصداميين في إشارة ربما الى صفحة على شبكة فايسبوك باسم"صداميون الى الأبد"ظهرت في شكل مفاجئ قبيل موعد التظاهرة واستخدمت على نطاق واسع للتشكيك بمقاصدها. تلك القراءة انعكست على الإجراءات الأمنية الغريبة والمرعبة التي فرضت يوم الجمعة الماضي، ابتداء من إعلان حظر التجوال الى إغلاق الجسور بعوارض كونكريتية مرتفعة الى محاولة رجال الأمن منع المتظاهرين بشتى السبل الترهيبية من الوصول الى ساحة التحرير ببغداد والساحات المعلنة للتظاهر في المدن الأخرى وصولاً الى استخدام العنف في شكل مفرط وغير مقبول ضد المتظاهرين العزل ما أدى الى مقتل نحو 14 شاباً وجرح 124 آخرين بينهم رجال شرطة. وبمعزل عن تأكيد السلطات في العراق أنها"نجحت"في إدارة أزمة التظاهرات فإن معطيات بدلالات كبيرة خرج بها يوم التظاهر سيكون على الوسط السياسي العراقي قراءتها بإمعان هذه المرة. دور المؤسسة الدينية إن كم الفتاوى الدينية الهائل الذي انطلق لمنع الاحتجاجات والتحذير من اندساس البعثيين فيها وطلب إمهال الحكومة لإصلاح ما لا يمكن إصلاحه يمثل نقطة تحول ليس في استمرار تدخل رجال الدين في الشأن السياسي لمصلحة الأحزاب في نطاق ما بات يعرف بتحالف رجال الدين مع السلطة، وإنما لتحول الوعي الجماهيري عن الانقياد الكلي لتلك الفتاوى. وربما يكون موقف المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني والمراجع الثلاثة الكبار فريداً في رفض توجيه تهم الى تلك التظاهرات أو الاستجابة لضغوط سياسية داخلية وخارجية لتحريمها، فكانت مرجعية النجف وفية لنفسها وتاريخها حتى عندما وجهت تحذيرات شديدة اللهجة وغير مسبوقة للحكومة بعد يوم التظاهرة، في وقت ذهبت مرجعيات أخرى ومنها مرجعية آية الله الحائري والمرشد الإيراني علي خامنئي في تدخل هو الأول من نوعه عبر وكيلها في النجف الشيخ محمد الآصفي لتحريم الخروج الى التظاهر. ويمكن الاستدلال من تضارب المواقف الدينية حول التظاهرات الى فهم أكثر وضوحاً لتمسك مرجعية النجف التقليدية برفض نظرية"ولاية الفقيه"التي تجد صداها لدى العديد من المراجع الدينيين الآخرين الذين تبنوا تحذيرات الحكومة من انقلاب بعثي كمسلمة، واستمرار فهم النجف لدور المرجعية باعتباره صوت الشعب لا السلطة. وانسحب الخلاف الى الوسط الديني السني الذي لا تبرز فيه مرجعية واضحة المعالم عبر تناقض طروحات رجال الدين السنة التي تراوحت بين الدعوة الى"طاعة ولي الأمر"أو تأييد مطالب المتظاهرين وصولاً الى حض بعض رجال الدين على تبني موقف يطالب بثورة إسلامية. لكن التساؤل الذي يبدو مبكراً جداً يتعلق بجوهره بقياس التطور الذي حصل في طبيعة علاقة المواطن العراقي بالسلطة ورجل الدين على المدى البعيد. وإمكان تحرر الطبقة السياسية من الاتكاء على الفتوى الدينية بديلاً عن الإرادة الديموقراطية في تمرير مشروعها. نهاية مرحلة"البعث" الجمعة العراقية لم تسقط التحذيرات الرسمية والحزبية التي أطلقت حول قيادة البعث لها، بل إنها في حقيقتها مثلت انتفاضة جديدة على ما تبقى من البعث العراقي باعتباره مرحلة تنتمي الى التاريخ. فالقراءة الرصينة لحراك الجمهور العراقي من أقصى شماله الى أقصى جنوبه يحيل بالضرورة الى أن التهويل الرسمي لدور البعث في إنتاج هذا الحراك وتغذيته قد حتم على المتظاهرين مهمة إنهاء مرحلة البعث بالكامل لإسقاط فرضيات السلطة. والنتيجة التي بدت واضحة من شعارات المتظاهرين وهتافاتهم تعزز هذه القراءة، فيما أن حراك الجمهور ربما سيحتم على حزب البعث نفسه بفصائله المختلفة إعادة قراءة الوقائع في شكل واقعي واستخلاص محصلة مفادها إن أي تغيير في المنطقة لن يتم عبر العمل الحزبي المسلح وإنما عبر الحراك الشعبي وإن هذا التغيير لو حصل في العراق لن يتم تحت يافطة البعث ولن يكون عبر إعادة العراق الى الحقبة الماضية على أية حال. وإنهاء مرحلة البعث في العراق تم الجمعة على المستوى الرمزي وعلى يد شباب العراق وجماهيره، فيما سيترتب على الوسط السياسي العراقي في الفترة المقبلة ترجمة هذه الحقيقة الى وقائع ملموسة أبرز ملامحها هي العمل القانوني على تصفية التركة التي خلفها نظام صدام حسين بكل توابعها وإيقاف استخدام هذه التركة كورقة ضغط سياسية متبادلة. ولا يفوت الحديث عن أن تصفية التركة يتطلب تعويض ضحاياها الحقيقيين على المستويين المعنوي والمالي ومعالجة تبعاتها في نطاق إرساء آلية تعايش لا ترضي الظالم على حساب المظلوم. إصلاح بنيوي لا بد أولاً من الاتفاق مع التصنيف الذي طرحه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي حول مطالب التظاهرات، فقسمها الى ثلاثة أقسام الأول يتعلق بمطالب مشروعة يمكن معالجتها والثاني يخص مطالب تحتاج الى وقت وظروف مختلفة لتحقيقها والقرار فيها لا يتعلق برئيس الحكومة والثالث يخص مطالب غير دستورية كإسقاط النظام السياسي. وما يمكن أن يقال إن وجود المالكي في قمة السلطة أو وجود سواه لن يغير شيئاً في المشكلات البنيوية التي وصلت إليها العملية السياسية في العراق وتعيق تقدمها أو حتى تغيير مساراتها. فالمشروع السياسي الذي أقره الدستور العراقي في ما يتعلق بطبيعة توزيع السلطات والعلاقة بينها وصلاحيات كل منها وأسلوب إنتاج البرلمان والعلاقة بين الحكومة المركزية والإقليم والمحافظات وإشكالات تكوين الحزب السياسي وتعريفه، ونمط العلاقة بين السلطة السياسية والأحزاب وأسلوب صوغ القرار السياسي والاقتصادي والأمني وإقراره، جميعها قضايا ذات طابع بنيوي تستحق مراجعة جادة وسريعة لتقويمها والتفكير ببدائلها. المسؤولية التضامنية في شأن العجز الذي وصلت إليه العملية السياسية تخص كل الوسط السياسي المعترف به سياسياً ودستورياً ولا تتعلق برئيس الوزراء بالضرورة. لكن تشخيص الخلل بوضوح اليوم اكثر جدوى على مستوى الخطاب السياسي من إطلاق وعود الإصلاح التي من الصعب تحققها ليس في ظل الخريطة السياسية العراقية الحالية وسابقتها فقط بل في ظل أية خريطة يمكن أن تنتج من انتخابات مقبلة في ضوء استمرار الخلل الهيكلي ذاته. ويمكن الإشارة الى إعلان رئيس الحكومة أخيراً حزمة من الإصلاحات والقوانين والمشاريع والمقترحات التي قال إن من شأنها وضع الأمور في نصابها، وعلى رغم أن تلك الإصلاحات تمثل خطوة بالاتجاه الصحيح إلا أن وضعها في حيز التنفيذ لن يكون بمأمن من العراقيل نفسها التي تواجه حركة العملية السياسية في العراق عموماً. فهيكلية العملية السياسية تحكم آليات حراكها، وذلك الحراك سوف يستمر باعتباره متلكئاً وضعيفاً وغير قادر على التطور. ما ينعكس على كل إرادة تغيير من داخل تلك الهيكلية. وبضمن ذلك محاولات مكافحة الفساد أو قيادة مؤسسات الدولة ووزاراتها على وفق مبدأ الكفاءة. والتحاصص الحزبي في العراق الذي يعد سبباً مباشراً وأصيلاً للخلل الهيكلي ليس مجرد واقع مرحلي، بل إن البنية الدستورية بحد ذاتها تأسر السلطة التنفيذية لهذا التحاصص. وحتى الآمال التي كانت معقودة على الزمن لإذابة واقع المحاصصة وإنتاج آلية حكم أكثر فاعلية لم تعد متوافرة اليوم في ضوء الفورة الجماهيرية التي تستعجل التغيير متأثرة بالحراك الشعبي المستمر في المنطقة. والحل الوحيد المتاح أمام الوسط السياسي العراقي لملاحقة سرعة المتغيرات في الوعي الشعبي هو التفاعل مع هذا الوعي كمتغير إيجابي والكف عن المحاولات غير المجدية لإيقافه أو تخديره بالوعود. العراق يحتاج الى إصلاحات بنيوية أساسية في صميم العملية السياسية المترهلة وتلك الإصلاحات تتطلب بدورها سلطة تشريعية واحزاب بمستوى المتغيرات الكبيرة، فهل الوسط السياسي والبرلماني العراقي قادر على تحمل هذه المسؤولية؟ الواقع أن هذا الوسط المحكوم بمنطق المحاصصة والمكاسب الحزبية بات أحد عراقيل التغيير الديموقراطي في العراق ما أثبتته آليات توزيع المناصب في نطاق توافقات الحكومة والتي تحولت الى عبء حقيقي على بلد لا يمتلك لا ترف انتظار تشكيل الحكومة لمدة عام كامل ولا إمكانية القبول بواقع إرضاء الشخصيات والأحزاب بمناصب لا يستحقونها. بل إن البرلمانيين العراقيين أنفسهم والبالغ عديدهم 325 يعترفون بأن 16 فقط منهم قد نال مقعده بأصوات جمهوره، وأن 309 آخرين وصولوا عبر معادلات قانون الانتخابات السابق الرياضية المعقدة التي سمحت لمن حصل على 100 صوت فقط بالوصول الى البرلمان عبر حزبه ومنعت من حصل على 18 ألف صوت من هذا الحق بل إن أصوات الأخير ذهبت الى الأول!. وبصرف النظر عن هذه الإشكالية فإن الخريطة التي انتجتها الانتخابات بالإضافة الى الآليات الدستورية لتقاسم السلطة تفرض المحاصصة كواقع وليس كخيار. ويمكن أن تكون الانتخابات البرلمانية المبكرة حلاً، لكنها حل لا يضمن إنتاج برلمان منسجم وقادر على إحداث الإصلاح البنيوي ما يضع أعضاء البرلمان الحالي وأحزابه مجبرين أمام خيار تحقيق إصلاح دستوري عاجل يضمن إحراج البلاد من أزماتها العصية. والإصلاح الدستوري لا بد أن يتناول آليات دستورية لا تتيح تكون معادلة الصفقة السياسية لتشكيل الحكومة بما يضمن في الأقل فصل منصب رئيس الجمهورية بعد منحه صلاحيات فعلية في نطاق حماية الدستور عن منصب رئيس الحكومة عبر إحالته الى الانتخاب المباشر. وذلك الإصلاح يخص تالياً تعويض مشكلة تمثيل المكونات عبر مجلس الاتحاد المعطل أو من خلال آليات ضامنة لحقوق الأقليات. كما إنه يتعلق بإقرار سلسلة قوانين لتوزيع الصلاحيات بين السلطات وفصلها وتحقيق استقلالية فعلية للسلطة القضائية وتوضيح العلاقة المتداخلة بين المحافظات والمركز بما يضمن التوسع في اللامركزية الإدارية في شكل أكثر مسؤولية وهذه في جوهرها إحدى آليات تطمين الأقليات والمكونات في العراق. والإصلاح الدستوري لا بد أن يشمل مراجعة لهيكلية مؤسسات الدولة لتوضيح مكامن الفساد فيها وتفعيل الأجهزة الرقابية لا كشرطة نزاهة كما هو الحال اليوم بل كأنظمة وقوانين رصينة تحكم العمل الإداري وترشق الترهل الهائل في العمل الحكومي. الاستمرار في نمط الحكم الحالي غير المنتج في العراق سيقود في النهاية الى انهيار لا يتمناه أحد، والمبادرة الى الإصلاح لن تتم إلا عبر أحداث تغيير نأمل أن صوت الاحتجاجات الشعبية قد أحدثه في ذهنية السياسي العراقي التقليدي ليتحول الى رجل دولة يفكر بمنطقها ويحتكم لإرادة شعبها بدلاً عن أن يستمر في أداء دور ممثل حزب أو ناطق باسم فئة.