إلى روحك يا مهدي لمن لا يعرف التسمية، المكتومون هم قسم كبير من الأكراد السوريين الذين حرموا الجنسية السورية حتى الأشهر الماضية حين اضطر بشار الأسد إلى منحهم إياها لعله يعيق مساهمة الأكراد في الثورة، فظلوا طوال عقود محرومين من حق امتلاك البيوت أو الأراضي الزراعية، بل حتى حق التعليم والعلاج في المستشفيات الحكومية. وقد لعبت دوراً متواضعاً في مساعدة فريق من منظمة هيومان رايتس واتش جاء إلى سورية لإعداد تقرير عنهم. ليس هؤلاء المكتومون من أكتب عنهم هنا. أكتب عن عشرات الألوف من العراقيين وغيرهم من الأجانب الذين"تستضيفهم"سورية على أراضيها وقد هربوا من المآسي التي يعجّ بها وطننا وأوطانهم. أكتب عن مثقفين من أمثال الراحل مهدي محمد علي رحلوا وفي قلوبهم غصتان. غصّة لأن نضالهم ضد النظام البعثي في العراق حقق هدفه بسقوط النظام لكنه جاء بسلطة، أو قل سلطات، متناحرة، تكاد تمزق بلدهم. وغصّة ثانية لأنهم مكتومون ليس بوسعهم المشاركة في نضال ضد نظام بعثي آخر بل لا يستطيعون رفع صوتهم لإعلان تضامنهم مع الشعب السوري في ثورته. أتخيل مهدي ممدداً كفراشة مبتورة الجناحين في سيارة إسعاف يدوي صفيرها الكئيب في ليلة قارسة البرد. ترى هل تعرف الفراشة أنها لن تعود من رحلتها إلى الورود التي اعتادت على دورانها الرشيق؟ هل سمع مهدي وآخرون لا نعرفهم دوي الشارع وتمنى لو إنه قال كلمته قبل أن ترفع عنهم أجهزة التنفس ويعلن الطبيب بصوت بارد تلاشي الأمل؟ رحل مهدي. لكنني أفكر في أصدقاء آخرين أتمنى لهم طول العمر ولا أستطيع ذكر أسمائهم. أفكر خصوصاً بالصديق الملتهب حماسة لإسقاط البعث العراقي لدرجة ترحيبه بالغزو الأميركي واضطراره لأن يكتم أنفاسه لأنه"أجنبي"،"ضيف"، لا يحق له التنكر لحقوق الضيافة وإلا اعتبره النظام جاسوساً يعمل لحساب هذه الجهة أو تلك. أفكر في لجم حماستي للمشاركة في تظاهرات الشعب المصري واضطراري للوقوف مراقباً من زوايا مقاهي الإسكندرية القريبة من التظاهرات لكي لا تعلن السلطات القبض على"أجنبي يحرض الشعب على إثارة الشغب"، ولعلها تعلن أنها عثرت لدى العبد لله ملايين مخبأة يوزعها على المتظاهرين. لابدين في بيوتهم. أكاد أجزم إنهم ليسوا خائفين من الأذى قدر خوفهم من أن اندفاع شاشة تلفزيون داعر تدفع الميكروفون في حلوقهم ليدلوا بتصريحات تدين"المؤامرة على البلد الصامد"وتدعو للالتفاف حول القائد. ليس بمقدورهم رفع صوتهم معارضاً، لكنهم لا يريدون التواطؤ. هل سنجد في أوراق مهدي قصائد نفّس فيها عن هذا الكرب؟ هل بوسعنا مطالبة العراقيين بأكثر من ذلك ونحن جالسون في مقاعدنا المريحة بعيداً عن النيران؟ بل هل تجرأ أحد من الفلسطينيين المقيمين في سورية وهم يعدّون بمئات الآلاف على رفع صوت التضامن؟ ليس هذا في متناول الأخيرين وقد خذلتهم قياداتهم، كما خذلتهم مراراً بوقوفها الانتهازي المشين إلى جانب الأنظمة التي وفرت لها وسائل العيش المترف في أحياء مثل المزّة تقود منها النضال لتحرير فلسطين. هل قلت"إلى جانب الأنظمة"؟ أصحح بالقول"في خدمة الأنظمة وأجهزتها المخابراتية". فمن لا يعرف من السوريين بوجود جهاز من أبشع أجهزة المخابرات السورية باسم"الضابطة الفدائية"؟ حتى اسمه يذكّر بأسماء المؤسسات العثمانية البوليسية! كان الخطف والاختفاء أي الإخفاء ولا يزال هواية محببة للمخابرات السورية. وكان خلق الله يشعرون ببعض الطمأنينة لأن سفارات بلدانهم ستتدخل لحمايتهم والمطالبة بالإفراج عنهم، إلا اللبنانيونوالعراقيون. من سيسأل عنهم؟ يمضي الجيش السوري في نزهة باتت مألوفة له إلى لبنان لتعقب واصطياد المعارضين، فإذا استعصى عليه ذلك فإن الرفاق في حزب الله يتكفلون بالمهمة. أما العراقيون المعارضون لنظام صدام حسين فكان اختطافهم هو المشترك الوحيد بين مخابرات البلدين أيام العداء المستحكم بين سورية والعراق. لم نكن أبطالاً وكنا كباقي البشر نخشى التعذيب والموت. لكن أشد ما كان يرعبنا أن نساق أمام الكاميرات"لنعترف"بعمالتنا لإسرائيل أو أميركا. ثم جاء"التحرير". واستقبلت سورية مئات القيادات البعثية العراقية الفارة وآوتهم لديها، فالظفر لا يخلع من اللحم كما يقال، والبعثيون أبناء عمومة مهما كان العداء سافراً بينهم من قبل. وإذا بالقيادة العراقية الحالية التي تشن حرباً شعواء على البعثيين داخل العراق تتخذ موقفاً مسانداً لنظام يحمي من يمّول ويقود بعثيي الداخل. فهل سيلجأ العراقي أو يطمئن على الأقل إلى أن سفارة بلده ستحميه وتدافع عن حقوقه إن تعرض للأذى بسبب موقف شجاع يريد اتخاذه دعماً للشعب الثائر؟ عند ذاك، وهذا حلم كبقية الأحلام التي لا تتحقق، قد يقول هذا المثقف قولته ويفكر بالموت، إن كان لا بد منه، مردداً مقطعاً شعرياً أثيراً لدي"يا صخرة التابوت/ تمهّلي/ فكلنا نموت". ومات مصطفى عبدالله كاتب هذه القصيدة بعد أسبوع بالضبط من كتابتها. * كاتب عراقي