جاء البيان الرقم 93 الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمثابة اعتراف رسمي بمهنة تزاحم الجميع على تعلم أسرارها: مهنة التحليل السياسي والاستراتيجي على متن الفضائيات. ذكر البيان أن الفترة الماضية شهدت"تزايد تصريحات بعض المعلقين السياسيين والاستراتيجيين... وأثارت ردود فعل سلبية"، وحذر من أن هذه التصريحات لا تعكس وجهة النظر الرسمية. وعلى رغم ردود الفعل المتباينة حول البيان، فإن ظاهرة"المحلل السياسي"و"الخبر الاستراتيجي"أبعد ما تكون عن الانقراض. فقد دأبت هذه الظاهرة الفضائية بامتياز على الظهور، ولكن في شكل موسمي، في أوقات الأزمات التي يحفل بها العالم العربي. ولأن التحليل السياسي والتنظير الاستراتيجي من المجالات الرحبة الواسعة التي لا تعترف بقواعد دقيقة أو تعريفات ضيقة، أخذت الظاهرة تنتشر رويداً رويداً، إلى أن نجح الربيع العربي في تصعيدها من فئة"الموسمية"إلى فئة طيلة العام المستمرة. والمتابع لأي فضائية عربية - بما في ذلك القنوات الرياضية، وتلك المتخصصة في عرض الأفلام او الفيديو كليب - ، يرى أن الجميع انخرط في عالم التحليل السياسي والشرح الاستراتيجي. ولما كانت العبارتان نفسهما بالغتي الهلامية، فقد سمح ذلك لكل من هب ودب في أن يخلع عباءته الأصلية ويرتدي عباءة التحليل. وبين ثورة وضحاها، وجد المشاهد نفسه واقعاً تحت ضغط جيوش هائلة من المحللين والخبراء من صحافيين وكتاب ومسؤولين سابقين ونشطاء سياسيين وراكبين جدد موجة الثورة والتغيير... وتحولت المسألة من تحليل موضوعي للأحداث ورسم منطقي للمستقبل إلى عملية تحوير لما يحدث ليخرج التحليل موائماً لتوجه سياسي بعينه أو لمصلحة حزبية معروفة. ولأنها مهنة ترتبط بالظهور على شاشات التلفزيون، فقد تطلبت مقداراً من الكاريزما والجاذبية، لكن كلاً في مجاله. فهناك المحلل الصحافي الذي يرتدي بدلة متواضعة برابطة عنق للدلالة على الأهمية، وهناك المحلل الرياضي ذو الكتفين العريضين والقميص ذات العلامة الرياضية الشهيرة، وهو يحلل وقفة التحرير وتظاهرة العباسية وكأنها مباراة في دوري الدرجة الثالثة. وهناك المحلل الثوري الشاب الذي لا تخطؤه العين ب"الكوفية"الفلسطينية والشعر المنكوش والنظرة الفوقية لكل من وما حوله للدفاع المسبق عن الاتهام بالصلف والغرور والمراهقة السياسية. وهناك المحلل المسؤول السابق، وغالباً يكون من المسؤولين المغضوب عليهم من النظام السابق ويرتدي بدلة"سينييه"هي كل ما تبقى من خيرات فترة عمله. وهناك المحلل بالمصادفة، وهو الذي دأب على الاتصال بهذا البرنامج أو ذاك للمشاركة في مداخلة هاتفية، فإذ به متحدث لبق، يهدأ في لحظات الاحتقان، ويصيح وينهار في لحظات الهدوء، ما أدى للاستعانة به ل"تسخين"البرامج الباردة. الطريف هو أن البيان الرقم 93 ومنذ ظهوره أصبح محل تحليل المحللين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين رغم أنف الجميع.