دارت ثورات الربيع العربي حول الحرية والعدل، فجاءت الأولى وتعثرت الثانية. أضافت الثورة المصرية شعار الكرامة التي هي في المضمون متخللة في الحقل الدلالي للنجمين الوضاءين"العدل والحرية. ربما ناضلت النخبة المتعلمة من أجل انتزاع حزمة الحريات بمفهومها الليبرالي، ولكن العطشى من أهل البلاد وسوادها ومهمشيها سعوا إلى سماء العدل، وأن اكتسوا بملامح ما سمي"المطالب الفئوية". المسعى الأعمق أمام الملايين هو إعادة اقتسام الثروة، وتقاسم الدخل القومي بصيغة أكثر عدلاً واستحقاقاً. المشهد يبدو مأسوياً: تحظى الأقلية المترفة في حالة مصر 10 في المئة من المواطنين بنصف الدخل القومي أو يزيد تاركة النسبة الباقية يتصارع عليها الباقون. لم يدفع استحقاقات سياسات التكيف الهيكلي سوى الفقراء والشريحتين الوسطى والدنيا من الطبقة الوسطى. وعندما عنون الاقتصادي الراحل رمزي زكي دراسته الشهيرة ب"وداعاً للطبقة الوسطى"، كان يعي الحقيقة التي أفرزتها سياسات العولمة وتوحش الليبرالية الجديدة/ وهي اتساع سياسات التهميش والاستبعاد الاجتماعي، ولذا نعي أن تعقد جامعة المسيلة الجزائرية مؤتمراً علمياً عن سياسات الاستبعاد الاجتماعي أخيراً، وكذلك اهتمام المعهد العربي للتخطيط بمسألة العدالة الاجتماعية في مؤتمره المقبل. وبدا أن جنة العولمة لا تعد إلا خُمس سكان العالم بفردوسها. أما الباقون فليسوا أكثر من زائدة دودية. وسادت نظرية قارب الإنقاذ المعبرة عن فلسفة الداروينية الاجتماعية. الجماهير المحتشدة في ميادين مصر كانت تعيد للسياسات الناصرية اعتبارها في استعادة مبادئ العدالة الاجتماعية والكرامة، وكانت تصحح اخفاق اقنوم الحرية، وهي التي تربت في عصر السماوات المفتوحة وحقوق الإنسان، والمزاج الليبرالي، وكأنها تجدد العهد بالسياسات الناصرية في انجازها تجاه المسألة الاجتماعية، ولكنها تنتقد وتصحح الإخفاق الديموقراطي فيها. الجدل المستمر بين أولوية الديموقراطية الاجتماعية تأمين رغيف الخبز والحياة الكريمة والديموقراطية السياسية حزمة الحريات لم يتوقف. الهمت السياسات الناصرية المنحازة إلى الشرائح العريضة من السكان، الهمت انحياز دولة الاستقلال الوطني في كل مكان في المشرق والمغرب والخليج العربي، وتصدرت دولة الرعاية المشهد والذي اهتمت بتأمين فرص التعليم والتوظف والخدمة الصحية والمسكن، وامتدت المظلة إلى تأمين الخدمة الثقافية، وسمحت هذه السياسات بحدوث أوسع حراك طبقي ممكن، وبدا التعليم هو المصعد الاجتماعي المضمون أمام أبناء الفقراء، وعبره جاءت أغلب قيادات حقبة الاستقلال، وبدت صيحة الفنان عادل إمام في إحدى مسرحياته صحيحة:"بلد شهادات صحيح"، وهي السياسات التي تراجعت عنها أنظمة العقدين الأخيرين، والتي تبنت وصفة سدنة البنك الدولي والصندوق، وتذعن لآلية السوق المفترسة، وتسعر الخدمات الجماهيرية، وتطرد الموظفين والمنسبين من دواوينها، وتتخلص من عار امتلاكها القطاع العام فتخصخصه بأثمان بخسة، ووسط مافيا من المنتفعين، والذي وصل إلى الحد الذي تاجر نجل رئيس عربي مخلوع بديون بلاده. لم تلتفت حكومات الاستقلال الوطني بعد إلى مسألة العدالة الاجتماعية، والتي قد تصل في حدتها الراديكالية إلى التخلص من خريطة الخلاص الرأسمالية، واستعادة دور الدولة في التخطيط وصيغة معدلة من الاقتصاد الموجه، وعودة دولة الرعاية، وإن كانت تقل درجات عن المشروع الأكثر راديكالية من فك الارتباط مع المنظومة الرأسمالية، كما يطرحها المفكر اليساري البارز سمير أمين. تهربت حكومة تسيير الأعمال في مصر الثورة من مطلب أساسي لمختلف الفصائل، وهو وضع حد أقصى للدخول، وبدلاً من تقرير نسبة 10 أو 12 ضعفاً، فإنها اكتفت في النهاية بنسبة 36 ضعفاً ما بين الحدين الأقصى والأدنى للأجور، ومنحازة إلى الأقلية الغنية. ما زالت نسب البطالة المرتفعة، وتخلف مخرجات التعليم عن سوق العمل، وسيادة نمط الاقتصاد الاستهلاكي بديلاً من الاقتصاد الإنتاجي كما هي، ولم يجرؤ رئيس حكومة في مصر وتونس وليبيا على العزف على الناي لإخراج الأفعى من المخبأ. استعادة أزمنة عبد الناصر وبومدين والبكر في تحقيق العدالة الاجتماعية في زمن نظام العولمة تبدو صعبة، وإن كان حلم التقاسم المنصف للثروة الوطنية حقاً ومسعى ثورياً بعد عقود احتكر تحالف الفساد والاستبداد الكعكة وسط سياسات الإفقار للجماهير العريضة، وتخلي الدولة عن دورها الأساسي تاركاً إياه للقطاع الخاص ووثن السوق. المعركة الحقيقية لثورات العرب هي في ملعب العدالة الاجتماعية حقاً. * أكاديمي مصري