تخوض الأحزاب السياسية القديمة والجديدة، في مصر أكثر من 50 حزباً أول اختبار جدي بعد ثورة 25 يناير خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة ابتداء من أواخر الشهر المقبل، إذ ستحدد هذه الانتخابات أياً منها يستطيع التواصل مع الشارع ويؤمّن تمثيلاً في البرلمان. ويمكن القول عموماً إن مرحلة الانتقال في مصر تشهد تطوراً إيجابياً بالنسبة إلى توافر العوامل المشجعة على نضج التعددية الحزبية وزيادة عدد الأحزاب القادرة على تداول السلطة، وإن كان هذا التطور لا يسير في شكل كافٍ نحو ما نرجوه من تطور ديموقراطي. ولعل السؤال المهم هنا هو: ما انعكاسات هذا التطور على الخريطة الحزبية في مصر وقدرة الأحزاب السياسية على المنافسة والوجود الفعال في الساحة السياسية؟ لن يستطيع أي تيار سياسي الحصول على نسبة حاسمة في الانتخابات المقبلة لتشكيل حكومة مصرية، إذ ما زالت مصر وربما إلى خمس سنوات مقبلة في مرحلة انتقالية، وستظهر الانتخابات النيابية بعد المقبلة مدى تبلور القوى السياسية في الواقع المصري، فضلاً عن تمرس الأجيال الشابة المصرية في العمل السياسي، وهو عامل يكاد يكون حاسماً في مستقبل الحياة السياسية، غير أن إذا استطاع أي تيار سياسي الاقتراب من الشارع وفق دراسة لطبيعة الشخصية المصرية ومتطلباتها، فسيكون هو الأكثر رسوخاً واستمرارية، فالشخصية المصرية وسطية تكره التعصب الديني بقدر ما تمقت اللادينيين، هذه الشخصية جسّدها في فترة من الفترات جمال عبدالناصر، فهو بضربه جماعة الإخوان المسلمين في صراعهم السياسي على السلطة، أطلق إذاعة القرآن الكريم ودفع قرّاء القرآن الكريم كالحصري وعبدالباسط عبدالصمد وغيرهما إلى الواجهة، بل مثل في تصرفاته الطبقة الوسطى المصرية، فدفع بمطربين مثل عبدالحليم حافظ وأم كلثوم ليكونوا نجوم الحياة العامة، وبين هذا وذاك وظف جمال عبدالناصر الكثير من العناصر والأدوات لتعبر عن شخصية مصر بصورة متوافقة معها، فحظي بشعبية جارفة، على رغم أخطائه وتسلطه السياسي. أحزاب وتيارات ويمكن تقسيم الأحزاب المصرية حالياً إلى عدد من التيارات الأساسية. الأول تيار الوطنية المصرية الإصلاحي، ويعد الأبرز والأكثر تأثيراً في الحياة السياسية المصرية، وتنطلق أيديولوجيته الإصلاحية من فكر وطني مصري شامل يعتمد من الأفكار الليبرالية والعروبية والاشتراكية والإسلامية ما يناسب الواقع المصري في إطار من الاعتدال والوسطية، ويمثله الكثير من الأحزاب الشبابية الجديدة التي نشأت بعد الثورة وعددها 26 حزباً، منها الاتحاد المصري للنهضة المصرية، العربي للعدل والمساواة، الإصلاح والتنمية، 11 فبراير، الحرية، القومي المصري، أحزاب ثوار التحرير، شباب التغيير، التحالف، 25 يناير، التحرير والتنمية، أبناء مصر، أبناء النيل، شباب مصر الحر، المستقبل الديموقراطي والصحوة، الوعي المصري، الجبهة القومية للعدالة، حراس الثورة، مصر النهضة، نهضة شباب مصر والمستقبل الجديد. ويتبنى هذا التيار خطوات عملية في مسار الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، إضافة إلى دراسة التجارب الدولية في المجالات نفسها، وبالتوازي معها إنتاج سياسات إصلاحية جديدة في مختلف المجالات بهدف خلق أجواء للإصلاح مواتية وبناء سياسات إصلاحية جديدة في مختلف المجالات تساهم في شكل كبير في بناء مصر الحديثة القوية. أما التيار الثاني الإصلاحي في الحياة السياسية المصرية فهو التيار الليبرالي، وهو يتشكل أساساً من نخب حزبية، إضافة إلى نخبة مثقفة تقود الرأي العام في هذا الاتجاه، لكن أحزاب هذا التيار ما زالت ضعيفة، وإن كان أبرزها حزب الوفد الذي كان مرشحاً أن يحل محل الحزب الوطني، لكن ضعف أدائه وتصاعد خلافاته الداخلية جعلاه يقف عند حد معين، سواء في نمو عدد أعضائه أو في دوره السياسي، فضلاً عن عدم تطوير أدائه بصورة تتيح له الحركة في الشارع المصري ووسط قواعده التى اشتهرت بمساندته. فرصة الليبراليين وصعد التيار الليبرالي بقوة في الساحة السياسية عبر الإعلان عن انطلاق 10 أحزاب ليبرالية أسستها شخصيات بارزة في أعقاب 25 يناير، ويعزو المهندس وائل نواره"رئيس شبكة الليبراليين العرب، سبب ظهور التيار الليبرالي بقوة إلى أن المكون الرئيس لغالبية المصريين هو الوسطية، موضحاً أن الطبيعة المصرية تميل إلى التيار الليبرالي ذي الطابع المصري الذي لا يتصادم مع الدين أو العروبة أو التاريخ كليبرالية الشيخ محمد عبده، إلى جانب تصالح الليبرالية مع التيارات السياسية الموجودة على الساحة، وكذلك الأديان، وهو ما سيزيد من أصحاب الفكر الليبرالي خلال الفترة المقبلة. ووصف نواره نشأة الأحزاب التي تقوم على"برنامج ليبرالي"بأنها نضج سياسي خلفته ثورة 25 يناير. وعلى رغم ارتفاع عدد الأحزاب الليبرالية الجديدة نسبياً مقابل التيارات الأخرى، إلا أن عدد الأحزاب الذي ينتهج تياراً سياسياً ما مقابل آخر ليس بالضرورة المعبر عن قوة التيار. ومشكلة هذا التيار الانقسامات والصراعات الشخصية والحزبية وأيضاً الفكرية، فهو ليس تياراً واحداً في الحالة المصرية، ما أفقده فاعليته. أما سياسات الإصلاح التي يطرحها هذا التيار فتعتمد فكرة الحرية والديموقراطية على النمط الغربي، وبمعنى آخر ليبرالية سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، الأمر الذي يصطدم بمقاومة شديدة من بعض التيارات السياسية والفكرية الأخرى، خصوصاً التيارات الإسلامية. كما يصطدم بتوجه رأي عام مناهض لهذه الأفكار إلى حد ما. والتيار الثالث، هو التيار العروبي الذي ينطلق من أفكار القومية العربية في تبني سياسات الإصلاح في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأسبغ هذا التيار على هذه السياسات المرجعيةَ الاشتراكية وفلسفة القومية العربية إلى حد كبير. ومشكلة هذا التيار أنه يتسم بالضعف العام وسط الجماهير ويتشكل أساساً من الحزب الناصري والتيارات الناصرية والعروبية الأخرى المتشرذمة والمتصارعة. ويغرق التيار الناصري في خلافاته الظاهرة والباطنة، بعدما فقد كاريزما القيادة، فحتى الانشقاقات القديمة لم يحاول أقطاب الحزب لمّها. ويقف جيل حمدين صباحي في حزب"الكرامة"على هامش الخلاف، ويبدو مرشحاً لأن يصبح أقوى ممثلي التيار الناصري في مصر، مع تراجع الحزب الناصري.?وهو ما يطرح التساؤل حول مستقبل التيار الناصري في مصر وهل سيصبح مجرد"حبر على ورق"، وفقاً للمعادلة الجديدة، خصوصاً وسط الصراعات التي يشهدها الحزب الناصري ما بين جبهة سامح عاشور"النائب الأول لرئيس الحزب، وأحمد حسن"الأمين العام، والتي يدخل فيها الشباب طرفاً. وتراجع التيار الناصري بتأسيس حزبين فقط"أحدهما حزب"الكرامة"الذي ظل تحت التأسيس مدة 12 عاماً والثاني"الوفاق القومي". ويرى أحمد حسن أن التيار الناصري لا يحتاج إلى أحزاب جديدة، مشيراً إلى أن قوة الأحزاب تكمن في مواجهة، أي حكومة تحول دون تحقيق مطالب الشعب، وهو الأمر الذى يستطيع التيار الناصري التصدي له بقوة من خلال الأحزاب التي تتبنى فكره، وهي أحزاب"الناصري"و"الكرامة"أو"الوفاق القومي". أما التيار الرابع فهو التيار اليساري الذي ينطلق من المرجعية الاشتراكية في وضع سياسات، وإن كان يتبنى فكرة الديموقراطية في مجال الإصلاح السياسي، ومشكلة هذا التيار أنه يتسم بالطابع النخبوي وبالضعف الشديد في أوساط الجماهير. ?فأقوى تيارات اليسار إما أنه يعمل تحت غطاء نخبوي، كمركز البحوث العربية والأفريقية الذي يديره حلمي شعراوي، أو بصورة شعبوية في حي مصر القديمة حيث أسس الراحل أحمد عبدالله رزه"?مركز الجيل". لكن اليسار يبقى في حاجة إلى ثوب جديد، ولكن لن يكون له تأثير في المشهد السياسي المصري قبل ثلاث سنوات على الأقل. والتيار الخامس، هو التيار الإسلامي، وتمثله عشرة أحزاب يتردد معظمها في اعتماد الآليات الديموقراطية لتداول السلطة ويطرح بدلاً منها فكرة الشورى، هذا ما يرجح صعود أحزاب الوسط ومجتمع السلام ونهضة مصر والتيار الرئيسي لشباب الاخوان ومعهم عبدالمنعم أبو الفتوح"المنشق عن جماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى حزب الحضارة، لتحل محل الكثير من الأحزاب الليبرالية والإسلامية في حال قدرتها على الفوز بنصيب كبير من مقاعد البرلمان المقبل، ومن ثم إعادة فرز خريطة الأحزاب الإسلامية باعتبارها تذهب إلى خطاب أكثر قبولاً للديموقراطية وتداول السلطة، فضلاً عن تخليها عن الخطاب الدعوي الذي ترفض جماعة الإخوان المسلمين والسلفيون التخلي عنه. السلفيون قادمون وفي لحظة تاريخية ما، يأخذ السلفيون زمام المبادرة من الإخوان، خصوصاً حزبيهما"النور"و"الإصلاح"، حدث ذلك في أعقاب 28 كانون الثاني يناير الماضي، فخطباء الجمعة من السلفيين كانوا يرفضون الخروج على النظام، ثم ظهر لهم دور في اللجان الشعبية في عدد من القرى، ثم بدأ شباب السلفيين وبعض شيوخهم الاتجاه نحو تشكيل حزب سياسي عكس ما صرح به الكثير من شيوخهم بحرمة الأحزاب السياسية كفكرة غربية، فلعب الشيخ السلفي البارز محمد حسان دوراً في الأزمة الطائفية في قرية صول، ثم ظهر دور القيادي السلفي ياسر البرهامي كقوة كبيرة في الإسكندرية تفوق في تأثيرها جماعة الإخوان المسلمين، واحتفظ السلفيون بقيادات مؤثرة في عدد من المحافظات كالمهندس طارق البيطار في محافظة كفر الشيخ، الذي أعطى دعماً للإخوان المسلمين في انتخابات مجلس الشعب في بعض الدورات الانتخابية السابقة. لكن الوضع مختلف الآن، فحجم التيار السلفي أقوى من تيارات سياسية كثيرة، خصوصاً لجهة انتشاره في محافظات الوجه البحري وبعض محافظات الوجه القبلي، وسيمثل السلفيون معادلة مهمة في الحياة السياسية، ولا بد من أن أول ما سيواجههم هو البرنامج الانتخابي الذي من المتوقع أن يثير تساؤلات كثيرة. ووسط التيارات الدينية تبرز الجماعة الإسلامية، لكن، ليس من المتوقع أن تحقق نجاحاً كبيراً في ظل خطاب معقول من ناجح إبراهيم وكرم زهدي، إذ يبقى بعض أعضاء الجماعة يحملون للمصريين خطاباً متعصباً يثير قلق البعض، وستأخذ الجماعة وقتاً كي يكون لها تأثير، إذ إنها ظلت سنوات تئن تحت ضغط الضربات الأمنية القاسية. لذا، فإنها ستظل في دائرة اهتمام الإعلام بصفتها المقاوم الرئيس لنظام السادات، ثم لنظام مبارك. وأثيرت في مصر أخيراً مخاوف خصوصاً من جانب الأقباط ونخبة المثقفين الذين أسسوا عدداً من الأحزاب السياسية الجديدة، ومنها أحزاب الوطني الحر والاتحاد المصري وشباب الثورة والنهر الجديد والمصريين الأحرار، إضافة إلى 10 أحزاب أخرى جديدة و24 حزباً من مرحلة ما قبل الثورة ذات طابع مدني تزاوج بين الليبرالية والعدالة الاجتماعية، وبعضها ذو توجهات يسارية لمواجهة صعود تيارات سياسية ذات توجهات إسلامية إلى سدة الحكم، فيما المنتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين ومعهم منتسبون إلى جماعات سلفية أخرى، منشغلون بالعمل على الأرض في القرى والنجوع. ومن المتوقع أن يكون التيار الديني الأقوى خلال الفترة المقبلة بأحزابه المختلفة وعلى رغم ذلك فشلت معظم الأحزاب المدنية في توحيد جهودها لضمان عدم توظيف الدين في الصراع الحزبي، لكن تيار المثقفين المصريين سيقف ضد وجود جماعات دينية تخدم مصالح أحزاب سياسية، وهي معادلة صعبة تضعف من أداء القوى السياسية في مواجهة الأحزاب الإسلامية، إضافة إلى عدم رغبة الإخوان والجماعات الدينية الأخرى في حل هذه الجماعات مع اعتراف المجتمع بأحزاب سياسية لهم، ومن المتوقع أن تتصاعد قريباً دعوات كي تقوم هذه الجماعات بالكشف عن حجم تبرعات أفرادها وشركاتها بصورة واضحة. كما أن الأحزاب المتوقع ظهورها في هذه الانتخابات وتوازنات القوى السياسية والتحالفات المنتظرة ترجّح تبلور نوع من الاستقطاب بين قطب إسلامي تقليدي وقطب حداثي مدني، ويعتبر ذلك امتداداً للاستقطاب بين القديم والجديد، الذي يمثل أحد مكونات مدارس الفكر والعمل السياسي منذ بدايات الدولة الحديثة في مصر، وظهر هذا الاستقطاب على خلفية دينية أثناء الاستفتاء على التعديلات الدستورية، الأمر الذي يشكل خطراً يهدد الديموقراطية المدنية الوليدة، ويتطلب بالضرورة اتفاقاً مجتمعياً على التصدي له حتى لا يمتد ويهدد الهوية المشتركة للمصريين، وفي ظل التوازنات والاستقطابات السابقة، من المرجح أن تعيد نتائج الانتخابات المقبلة إنتاج النظام الحزبي السابق مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة على مكوناته ونصيب كل حزب داخل البرلمان، بمعنى استمرار هيمنة أبناء الأسر الكبيرة والعصبيات يرجّح التحاقهم بالحزب الأقرب إلى الحكم وجماعة الإخوان على مقاعد البرلمان. وتشترك القوى التقليدية مع جماعة الإخوان في الجاهزية للانتخابات وامتلاك الخبرة اللازمة ما يؤهلها للفوز في أية انتخابات. الافتراضي والواقعي في الجانب الآخر لم تدرك التيارات السياسية الافتراضية التي أجّجت ثورة 25 يناير مثل"6 إبريل"و"كلنا خالد سعيد"و"شباب الثورة"وغيرها، أن البون شاسع بين العالمين الافتراضي والواقعي، ففي عالم الواقع هناك ملايين لا يعرفون حتى ما هو العالم الافتراضي، خرجوا في تظاهرات إسقاط نظام مبارك، لأن الحالة في مصر ساءت إلى درجة غير مسبوقة بالنسبة إليهم، وهم سيعطون أصواتهم للحاضرين على الأرض بينهم وليس لمن يتعايشون داخل العالم الافتراضي. يقف بين هذه القوى حائراً قيادات الحزب الوطني السابق الذي كان يحكم مصر، وهو ليس حزباً بالمعنى التقليدي للأحزاب، فلا يمكن وصفه إلا بأنه كان الجناح أو الأداة السياسية للحكم، لكن بعض قياداته، خصوصاً من رجال الأعمال، سيدعمون بقاءه سواء تحت اسمه القديم أو بتغيير جلده أو بالإبقاء عليه مع حزب آخر، خصوصاً أن معظم هؤلاء يمثلون قبائل وعائلات وعصبيات كبيرة في المحافظات المصرية. الفترة ما بعد ثورة 25 يناير قد تكون فرصة ثانية للتيار الليبرالي بعد الفترة الأولى التي استمرت ما بعد ثورة 19 حتى ثورة 52، لكن المرحلة الحالية ستستمر فيها نشأة الأحزاب السياسية من كل التيارات السياسية ولا يمكن التكهن بمدى وزن أو قوة تيار ما. كما أن الانتخابات البرلمانية وأيضاً الفكر الذي يتنمي إليه الرئيس الجديد سيلعبان دورًا حيوياً في تحديد مستقبل هذه التيارات السياسية، إذ من المتوقع أن تختلف خريطة الأحزاب الحالية مع الانتخابات البرلمانية المقبلة باندماج الأحزاب المتقاربة فكرياً ونهاية بعض الأحزاب. وبطبيعة المرحلة الحالية ستشهد مصر تيارات جديدة وأحزاباً تختلف من حيث طبيعة البرنامج والأطروحات الفكرية، إلا أنه لا يمكن تحديد مدى نجاح تلك المبادرات إلا بعد خمس سنوات على الأقل. * كاتب مصري