بين أغاني ال"ديو"الكثيرة التي برزت في العام المنصرم، واستطاعت أخذ مكانها الجيد في وسائل الإعلام، الأغنية التي جمعت الفنان اللبناني هشام الحاج والفنانة المصرية أمينة. فكرة الأغنية أساساً جميلة، وهي إلى كونها تتحدث عن بعض الرموز التاريخية فنياً وسياسياً في لبنان ومصر وتحاول استعادتها بأسلوب غير افتعالي بل ينمّ عن كبرياء وطنية طيبة، فقد أوقفت صوتين جميلين جداً، أحدهما لبناني والآخر مصري في نوع من التكامل بعضهما أمام البعض. والصوتان مشبعان بالأصول الغنائية الصحيحة ونضج الموهبة، فضلاً عن أن لحن الأغنية الذي تولاه الملحن وسام الأمير كان مطابقاً لمقتضى هذه التجربة الشبابية، ومزج اللون اللبناني باللون المصري في إطار تشويقي راقٍ... وكلمة"تشويقي"التي تستخدم مادة في تقويم المسلسلات أو الأعمال الفنية السينمائية تبعاً لدرجة المفاجآت التي تحصل في الشخصيات والمواقف، نستخدمها هنا للدلالة على قدرة الأمير على صياغة لحن متناسق في مبناه الفني وفي معناه الشعوري في آن معاً، من دون أن يدخل أي تصنّع أو ارتجال في هذه الصناعة اللحنية المتميزة. فالأمير، كما يبدو من خلال ألحانه الكثيرة، الناجحة بأصوات نجوم لبنانيين، يحمل في شخصيته بذوراً لبنانية وبذوراً مصرية، والجملة اللّحنية عنده هي عملية وئام وانسجام بين فنّ البلد الذي ينتمي إليه بالفطرة والحياة والتجربة، أي لبنان، وفن البلد الذي يحبه ويحب فنه وفنّانيه، أي مصر، ومن يراقب بدقة نتاجه على صعيد التلحين لا يشك للحظة في أنه موزع الهوى اللّحني على جمال التأثر والتأثير. هذا في عموم الألحان التي يقدمها... أما في أغنية هشام وأمينة الأخيرة، وبالتحديد،"بلدنا"، فاسم الأغنية كافٍ ليقول بالجمع، واللحن يتصرف على أساس الجمع، والصوتان الجميلان يخوضان حالة الجمع التي تجسّدت في مساحات صوتية انطلق فيها الاثنان ليُعبِّرا عن فن عربي واحد قادر على أن يكون أشبه"بتحالف"فني صوتي. وهو نوع من"التحالف"لا يخضع لأي ممنوعات أو لأي معادلات إلاّ تلك الجمالية التي بنيت عليها أغان لبنانية ومصرية في الماضي، وهذه أغنية"بلدنا"وصلت الى الجمهور بمحبة، وبالطريقة نفسها... وبين الموَّال البلدي اللبناني، والموال البلدي المصري وحركات صوت هشام الحاج، وحركات صوت أمينة، وكل منهما متشرب أصول الأداء الفولكلوري لبلده، كما أصول الأداء العصري، فقد تمتعت أغنية"بلدنا"بلمحات من نسيم الماضي ونسيم الحاضر معاً، وكان هذا أحد أسرار نجاحها.. هل تردّ هذه الأغنية"المشتركة"على الدعوات التي لا تنتمي الى الفن والغناء في شيء، وأصحابها يريدون أن يرسموا حدوداً بين أغنية عربية وأغنية عربية أخرى، في تقسيمات لا يمكن أن تكون جدية وحقيقية، لأن ما رسمته السياسات الآنية لا يمكن أن تقتنع به الجغرافيا، والشعوب تتبع الجغرافيا أكثر مما تتبع السياسات الآنية، في توجهاتها الثقافية والفكرية والفنية، وان تكن السياسات تلعب دوراً محدوداً قياساً بدور الزمن، ليبقى الأصل الذي هو التكامل في العادات والتقاليد والفولكلور.. وصحيح أن للبنان هوية موسيقية خاصة ظهرت منذ الخمسينات من القرن الماضي ولا تزال تظهر وتتكرّس، وان لمصر هوية موسيقية خاصة ظهرت منذ بداية القرن العشرين، أي قبل الغناء اللبناني بنصف قرن، إلاّ أن الجهد الذي بذله كبار الملحنين والموسيقيين والشعراء في لبنان، والمواهب الكبيرة التي مرت على البلد، أنجزت خطوات جبارة فعلياً في اكتساب لبنان أغنيته الخاصة بعيداً من أي محاكاة أو تقليد لأغاني البلاد الأخرى، حتى باتت أغنية منافسة بقوة للأغنية المصرية. وهذا يعرفه الدارسون في لبنان ومصر، ويلمسونه، إلاّ أن عملية التلاقح بين مصر ولبنان وبالعكس، كانت ولا تزال ثابتة على صعيد التلحين والغناء. هل أغنية"بلدنا"تريد أن تكون نموذجاً لغناء لبناني-مصري يتوحّد بالنوتات والإنتاج؟ أو هل كانت الأغنية أصلاً بهذا الهدف؟ طبعاً.. لا.. فهذه الأغنية قالت ما عندها وما عند ملحنها وسام الأمير وما عند مُغنيها هشام الحاج وأمينة، ودخلت البيوت وتردّد صداها، وهذا كافٍ. ومن المفيد أيضاً الإضاءة على الكليب الذي صوّر للأغنية، وفيه انعكاس بالصورة لما أرادت الأغنية أصلاً التعبير عنه، وبرعت في ذلك. قد تكون أغنية"بلدنا"هي أفضل ما قدّمه هشام الحاج وأمينة والملحن وسام الأمير لعام 2010، أو قد تكون هناك أغانٍ أخرى لهم مجتمعين، أو متفرقين، نالت نجاحاً، إلاّ أن هذه الأغنية ستبقى محطة هامة لهم جميعاً لما فيها من الدلالات الفنية بين بلدين: لبنان ومصر.. صَنَعَا الجزء الأكبر والأبرز من الفنان العربي في الماضي، وجاءت في السنوات العشر الأخيرة الأغنية الخليجية، بكثافة وإصرار، لتدخل اللعبة... والعالم العربي يرى بأمّ العين، حالياً، كيف أن كل أغنية في كل بلد عربي تفعل كل طاقاتها لتكون رائدة. سباق رائع... لولا أن بعض فصوله يبنى على الهشّ والمرتجل.