يأخذ كرم الحلو الحياة، ملحق تيارات، 9/1/2011 على الفكر السياسي العربي المعاصر مأخذين اثنين: كونه يتوقف في فهمه للأيديولوجيا عند مخطوط"الأيديولوجيا الألمانية"ولا يعير اهتماماً للكتابات اللاحقة التي اعترفت للأفكار بدورها في التاريخ فأعادت للبنية الفوقية أهميتها وفعاليتها. المأخذ الثاني أن ذلك الفكر يقيم فصلاً مطلقاً بين الفلسفي والايديولوجي، مغفلاً التداخل بينهما والعلاقة الجدلية التي تشدهما أحدهما إلى الآخر. ان كان الكاتب يدعو الى تجاوز التحديد الذي جاء في مخطوط"الايديولوجيا الألمانية"والتفتح على الكتابات اللاحقة، وخصوصاً على"ما جاء في رسائل ماركس وإنغلز من إعادة اعتبار للعوامل الإيديولوجية ودورها في التاريخ الإنساني، حيث أسند للأشكال الحقوقيّة والنظريات السياسية والفلسفية والآراء الدينية دور معيّن وإن لم يكن الدور الحاسم. فما يُسمّى بالعقيدة الإيديولوجيّة، كما يقول إنغلز، يؤثر في البناء التحتي ويمكنه ضمن حدود معيّنة أن يعدّله"، ان كان يدعو الى ذلك فهو لا يحاول أن يتجاوز الموقف الماركسي التقليدي في كليته ليهتم بتحول المفهوم عند بعض الماركسيين المجريين ثم عند غرامشي وبالأخص عند ألتوسير. لا أعتقد أن بامكان المرء أن يتحدث اليوم عن الايديولوجيا، وخصوصاً ليقارنها بالفلسفة، مغفلاً الإسهام الألتوسيري. لقد ظلت الايديولوجيا حتى عند ماركس نفسه مرتبطة بنظرية ما عن الوعي، ومشدودة أساساً الى نظرية المصالح، والى مفهوم معين عن الحقيقة. يمكننا أن نجمل كل ذلك بقولنا انها ظلت مرتبطة بميتافيزيقا الذاتية وبإبيستيمولوجيا لا تحيد كثيراً عن العقلانية التقليدية. قد لا يسمح المقام لتفصيل كل ذلك، ويكفي الرجوع الى الكتاب الهام لألتوسير"دفاعاً عن ماركس"، حيث أوضح منذ منتصف الستينات، أن التمثلات الإيديولوجية لا علاقة لها بالوعي، وأنها"موضوعات ثقافية تدرك وتقبل وتعانى وتعاش، فتفعل فعلها في البشر عبر مسلسل يفلت من أيديهم". استعمال كلمة موضوع هنا هو محاولة من الفيلسوف الفرنسي لتبيان أن الإيديولوجية لا تسكن الأدمغة، وإنما هي مستوى من مستويات التشكيلة الاجتماعية، فالوهم الإيديولوجي ليس كامناً في التمثلات، وإنما في العلاقة التي تربط تلك التمثلات بالعلائق التي تربط الناس في ما بينهم، فالأيديولوجيا علاقة بالعلائق، إنها ليست علاقة بسيطة، وإنما علاقة مركبة، علاقة بعلاقة، علاقة من الدرجة الثانية، على حد تعبير ألتوسير، فحتى إن قرّبنا الأيديولوجيا من مفهوم اللاشعور، فهي لن تكون لاشعور ذاتٍ سيكولوجية. اللاشعور هنا هو الفجوة أو الانفلات الذي توجد فيه التشكيلة الاجتماعية بالنسبة لذاتها. ذلك أن العلائق الاجتماعية تعاش مبتعدة عن ذاتها، وبلغة نيتشه إنها تعاش ملونة مؤوٌلة. هذا الابتعاد أو الانفلات، الذي لا يتوقف كثيراً على ما لدى الأعضاء الفاعلين في المجتمع من وعي به، هو ما يمكن أن نطلق عليه الوهم الإيديولوجي، وهو وهم لا يفترض بالضرورة، وكما اعتقد فوكو، حقيقة تقابله، ولا ذاتاً تحمله، ولا مادة توجد"تحته"، لأنه ليس إلا التشكيلة الاجتماعية في انفصالها عن ذاتها. ثم إن الآلية الايديولوجية لا تقف عند الدفاع عن مصالح، ولا تقتصر على القلب والتغليف، وانما تخلق الوحدة وتتصيد الاختلاف. لذا يقول ألتوسير إن لها دوراً هاماً من حيث هي"الإسمنت"الذي يشد أواصر المجتمع ويجعل التناقض انسجاماً والاختلاف تطابقاً والتعدد وحدة. من هذه الوجهة يظهر التعارض العميق بين الآلية الايديولوجية وما يقوم فكراً مضاداً لها، وبمقارنة هاتين الآليتين فحسب، يمكن أن نتبين أهمية الفلسفة، ذلك أن لكل من هاتين الآليتين أهدافاً ترمي إليها، وطريقة تنهجها، ومفاهيم توظفها. فإذا كان همّ الأيديولوجيّ خلق الوحدات وتوليد التطابق وإقامة عائلات فكرية ورسم تيارات ونظرات إلى العالم، فإن سعي الفلسفي هو توليد الفروق والوقوف عند النقاط التي قد تفجر كلية متراصة ليكشف أنها فضائح تخرق القانون وتشذ عن القواعد، فإذا كانت إستراتيجية الفلسفة إستراتيجية تفكيكية مقوضة، فما ذلك إلا مقابل الايديولوجيا البناءة الموحدة، فلا تقويض من غير بناء، ولا تفكيك من غير التحام، ولا تعدد من غير وحدة، ولا فروق من غير هويات. * كاتب وجامعي مغربي.