دخل بخطى وئيدة، يجر وراءه 70 سنة من الغناء والتلحين والعزف على العود. بحر على يمينه ويساره، وخلفه جبيل، المدينة العتيقة التي انطلقت منها حروف الأبجدية. وفي مقدم المدعوين رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان وحشد من السياسيين والفنانين، حياهم فبادلوه التحيات العاطرة. إنه الصافي وديع، صوته الذي لا يزال فتياً، افتتح مهرجانات جبيل الدولية في أمسية خُصّصت لتكون تحية لابن نيحا في عيده التسعين. حشود توافدت الى المدرّج الذي شُيد مسرحه فوق البحر، صغار وكبار، راحوا يهرولون صوب الحلم. اقتحم الصافي المسرح بخطى واثقة وقدّم أغنية لجبيل من كلمات الشاعر ميشال جحا، ومن ثم وصلة من أشهر أغانيه. وشارك في تكريم الصافي أيضاً نجوى كرم، فغنت له"يابني"ودويتو"وكبرنا"اضافة الى بعض أغانيها، ووائل كفوري الذي غنى"رح حلفك بالغصن ياعصفور"و"يا قمر الدار"ومن ثم شاركه الصافي أغنية" قتلوني عيونا السود"، ليعود ويغني من جديده. ثمة من أدمع من الجمهور، وثمّة من ترحّم على أيام زمان، وأغاني زمان. فصوت الصافي أشعل ما تبقى من ذكريات في وجدان كثيرين، خصوصاً أنه مرتبط بالأصالة والقرية والعادات والتقاليد والفولوكلور. لفتة جميلة من مهرجانات جبيل أن تكرم الصافي في أمسية عنوانها" لبنان قطعة سما"، خصوصاً أن المهرجان منفتح جداً على الأنواع الموسيقية الغربية على اختلاف أشكالها. بادرة نتمنى أن تستمر سنوياً مع فنانين آخرين لهم ثقلهم الفني وحضورهم، لا سيما أن وزارة الثقافة لا تهتم كثيراً بعظمائنا وتقدرهم على عطاءاتهم. من المخجل الحديث هنا عن أداء الصافي في الحفلة، فعلى رغم سنينه التسعين وصعوبة تنقله، يبقى صوته أجمل بسنين ضوئية مما نسمعه على الشاشات وفي الاذاعات. والأجمل حركاته على المسرح وخفة ظله، ورقصته وهو يهز يده معتقداً أنه لا يزال شاباً في الثلاثين. يقول المايسترو سليم سحاب أن صوت وديع الصافي بلغ طبقة لم تعرفها الأصوات الرجالية العربية من قبل، ما عدا الشيخ سلامة حجازي. فصوته يخالف قوانين الطبيعة، ويصل إلى أعلى درجة في الأغنية بكل قوّته المذهلة، ولذلك يستحقّ الفنّان التسعينيّ المتفرّد تحية اجلال بعدما أسّس مدرسة غنائية لبنانية وعربية جديدة. وقُدّم في الأمسية وثائقي عن مراحل حياة الصافي، ومقاطع من حوارات قديمة معه، وما عاناه في بداية مسيرته الفنية، ووصاياه الى أبنائه وأحبائه، وحديثه عن لبنان وكأنه يتكلم عن حبيبة أو عشيقة. وبين فينة وأخرى كانت تدخل فرقة فولوكلورية مؤلفة من 50 راقصاً وراقصة لتدبك على أنغام أغنيات وديع الهادرة. والمميز في تجربة الصافي أنه عرف كيف ينفذ الى قلب الجيل الجديد ويعصرن أغانيه من خلال تجربته مع المغنّي الإسباني خوسيه فرنانديز التي دمجت بين الغناء اللبناني الأصيل الجبلي والطربي والأندلسي. وكان الصافي لبّى دعوة المنتج ميشال الفتريادس، فأدّى"عندك بحرية"و"الليل يا ليلى"ومواويل تراثية بمشاركة عازف الغيتار الغجري و"الأوركسترا العربية الأندلسية". هذه الخطوة الإيجابية تمثّل انعطافاً ذكيّاً ولمّاحاً نحو لغة العصر، وذائقة الجيل الجديد، وتعكس رغبة صاحب" رح حلفك بالغصن يا عصفور"في عصرنة الفولكلور والتراث والطرب. الصافي الذي يتخطى رصيده الفني خمسة آلاف أغنية، قدّم الأغنية الوطنية والشعبية والفولوكلورية والطربية والشبابية، وتربى على أغنيات سيّد درويش وأم كلثوم وزكريا أحمد ومحمّد القصبجي... وكثيراً ما كان يردّد أدوار محمّد عثمان، ما حضه على إتقان قالب الدور المصري. وحفظ الموشّحات والطقاطيق وألوان الغناء الريفي والفولكلور اللبناني. وعلى رغم نجاح السهرة في معظم مقاييسها تبقى بعض الاسئلة العالقة، ومنها أن التنظيم لم يكن في مستوى الحفلة، وأن الموكب الرئاسي أخّر بدء الحفلة ومغادرة الجمهور بعد ختامها. والأهم من كل ذلك مشكلة تأخر بدء الحفلات وهي مشكلة تعانيها المهرجات، اذ تأخرت حفلة وديع الصافي ساعة وربع الساعة عن موعدها. وقد لا يكون هذا خطأ المنظمين، فالواضح أن فئة كبيرة من اللبنانيين، لا تلتزم بالمواعيد المحددة ويجب ايجاد طريقة لحل ذلك. أما السؤال الأهم فهو: وفقاً لأية معايير تم اختيار نجوى كرم ووائل كفوري للمشاركة في تكريم الصافي؟ قد يكون اختيار الأولى مبرراً نوعاً ما لكونها غنت معه سابقاً"كبرنا"، اضافة الى تمتعها بصوت قوي وجبلي. بيد أن اختيار وائل كفوري على رغم نجوميته في لبنان لم يكن صائباً والله أعلم. فكفوري الذي اشتهر بأغانيه الرومانسية والعصرية لم يقدم خلال مسيرته الفنية أغاني لوديع الصافي في حفلاته الا في ما ندر، كما أن صوته لا يتوافق البتة مع أغاني وديع الصافي التي تحتاج الى صوت قوي وهادر وتراثي. وكان هناك خيارات عدّة متاحة امام لجنة المهرجان لاختيار صوت قريب من صوت ابن نيحا كمعين شريف مثلا الذي تتلمذ على الصافي وأعاد تسجيل العديد من أغنياته، وملحم زين الذي نجح في برنامج"سوبر ستار"بعدما أبدع في تقديم أغاني الصافي بصوت قوي وعذب... نشر في العدد: 17256 ت.م: 03-07-2010 ص: 31 ط: الرياض