ها أنذا أدخل اليوم الخامس بعدما وارينا جثمان نصر حامد أبو زيد التراب، وتركناه وديعة بين يدي خالقنا جميعاً، ودعونا له بالرحمة، وبأن يبدله الله داراً خيراً من دارنا، وأن يعوضه عما لاقاه من عنت وتعصب مقيت واتهامات باطلة، وأن يحاسب الذين ظلموه وآذوه، ودفعوه إلى الرحيل عن وطنه الذي أحبه، وعن جامعته التي ظل متعلقاً بها، حالماً بمستقبل واعد لها، حتى في ما سماه التفكير في زمن التكفير، وظلت قريته قحافة الملاصقة لمدينة طنطا في وسط دلتا النيل مهوى فؤاده، والواحة التي يجد الراحة بين أهلها، أهله، الفقراء البسطاء الذين لم يتخلوا عن حبه، في أية لحظة من لحظات محنته، ولم يقلّ حبه لهم وحدبه على المحتاجين منهم، فكان باراً كل البرّ بأهله الذين أودعوه القبر معنا، واضعين جثمانه بين أهله الذين سبقوه إلى رحمة الله، مصلّين عليه في المسجد الذي اعتاد الصلاة فيه مع أبيه الذي تركه صغيراً، فعرف مرارة اليتم، لكن ضرورة تحمل مسؤولية أسرته الصغيرة بحكم كونه أكبر أبنائها، لم تجعله يهدأ إلا بعدما قاد الأسرة الصغيرة إلى شاطئ النجاة، فماتت أمه راضية مرضية عنه، ومات أخوه الأصغر منه محمد بعدما رعاه نصر في أثناء مرضه المميت، وظل على رعايته لزوجه وأولاده الذين أوصى ابتهال زوجه بهم خيراً بعد وفاته ويبدو أنه كان يتوقع موته، فقد طلب مني، منذ عام أو يزيد، أن أجمع له كل أصدقاء الصبا من أبناء المحلة الكبرى التي عرفناه فيها، فنياً في قسم اللاسلكي من شرطة النجدة، كي يلتقي بنا جميعاً، ونسترجع الزمن الجميل الذي مضى، ففعلت، فاجتمع محمد صالح الشاعر رحمه الله، ومحمد فريد أبو سعدة الشاعر المعروف، وجار النبي الحلو الذي أصبح كاتب رواية مرموقاً، وسعيد الكفراوي القاص المبدع الذي لا يزال أكثرنا براءة وتلقائية، لم يغير منه الزمن الغادر، ولا الأحزان المتكررة،. وتذكرنا في لقائنا الذي امتد لساعات كل الذين رحلوا قبلنا، زكريا والششتاوي التوابتي، وأحمد عسر ورمضان جميل، وظللنا نسترجع ذكريات المحلة ونضحك من القلب، بعدما نسينا كل ما مر بنا وبه، واكتشفنا أن عمر صداقتنا يرجع إلى نصف قرن، وتذكرنا محمد المنسي قنديل الذي كان راحلاً للعلاج، فدعونا له بالشفاء وطول العمر، وداعبنا محمد صالح بأن قال لنا آن الأوان أن نخطط للخمسين سنة المقبلة، وضحكنا من القلب، معلقين: وهل سنكمل، أيها المجنون، قرناً من الحياة؟ وكان محمد صالح، بعد هذا اللقاء أسبقنا إلى الموت، وبكاه نصر معنا، وعاد من منفاه الإجباري وذهبنا معه لعزاء أسرة محمد صالح في بيته، وعندما عرف بعيد ميلاد سعيد، أصر أن نحتفل به معه في منزله الصغير بالقرب من المستشفى الذي مات فيه، ملحّاً على أن يكون اللقاء عائلياً، يضم كل أسرنا، محمد صالح وأنا وسعيد مع أولادنا، فما كان أكثر حدبه عليهم، وحبه لهم، فقد ظل يرى فيهم أولاده الذين لم ينجبهم، ولذلك كان حزنه عميقاً موجعاً على وفاة ابنتي سهير بعد تعقيدات ولادتها الأولى، رحمها الله والتوأم الذي مات معها، فقد كان أحن عليها مني، وهي كانت اقرب إليه من حبل الوريد ولن أنسى بكاءه عليها وهو يعزيني بالهاتف، إلى الدرجة التي دفعتني إلى الخوف، فقد كان هذا دأبه من الحنان الذي يجعله قريب الدمع. وهاأنذا بعد خمسة أيام، أستعيد الوعى، وأسترجع محنة نصر أبو زيد التي هي محنتنا جميعاً، نحن مثقفي الاستنارة وأنصار الدولة المدنية في كل تياراتها، وهي محنة الثقافة العربية المعاصرة كلها، وهي محنة تستحق منا التأمل الطويل والتفكير في دلالاتها، فضلاً عن أسبابها، أملاً في ألا تتكرر هذه المحنة في المستقبل، فإن الخطر الذي تكشفه محنة نصر أبو زيد أشبه بما يظهر من جبل الجليد العائم، ما خفي منه أعظم مما يظهر، فهي محنة عميقة الجذور في الماضي، متعددة المظاهر المتشابكة في الحاضر، ولذلك فمن المهم تحليلها بهدوء، على الأقل من وجهة نظر شهودها، وحتى الذين أسهموا في صنعها، وهم لا يتأخرون في إعلان آرائهم، بل للأسف العميق لا يخفون شماتتهم في موت نصر، غير محترمين حرمة الموت، ناسين أن الرجل أصبح عند خالقنا، جميعاً، يحاسبه بعدله، كما سيحاسبنا جميعاً، فلا مناص لنا من الوقوف بين يديه العادلتين، مجردين من كل زهو دنيوى، أو مكابرة زائلة، أو سلطة دنيوية لا قيمة لها، حيث لا يبقى إلا الحق في ميزان الحق الذي لا إله إلا هو. والدلالة الأولى التي خطرت على بالي، الآن، وأنا أكتب هذا المقال، هي الجامعة التي بدأت منها المحنة، فقد انحدرت هذه الجامعة انحداراً عظيماً بعد أن تدخلت في شؤونها الداخلية الدولة التسلطية التي شاع نموذجها في العالم العربي، وقد سبق أن نقلت عن خلدون النقيب، عالم الاجتماع الكويتي المرموق، أن الدولة التسلطية هي الدولة التي تسعى إلى الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع لمصلحة الطبقة أو النخبة الحاكمة التي تنتسب إليها وهي تتميز بخصائص دالة، أولاها أنها تحقق احتكارها للسلطة من طريق اختراق مؤسسات المجتمع المدني، وتحويل منظماته التضامنية، كي تعمل بصفتها امتداداً لأجهزة الدولة. وثانيتها أن هذه الدولة تخترق النظام الاقتصادي وتلحقه بها، سواء من طريق التأميم أو توسيع القطاع العام، أو الزواج غير العنيف غالباً بين رجال الدولة ورجال الثروة... وثالثة هذه الخصائص أن شرعية نظام الحكم، في الدولة التسلطية، تقوم على العنف أكثر من الاعتماد على الشرعية التقليدية. ولذلك يقترن وجودها من حيث هي دولة، بعدم وجود انتخابات لها معنى حقيقي، أو تنظيمات مستقلة عن الدولة، أو دساتير فاعلة، أو مشوهة لمصلحة السلطة الحاكمة، أو إلغاء الدساتير، أو تعليقها، في موازاة تجميد الحقوق المدنية، وتحويل نسبة كبيرة من الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزة القمعية لهذه الدولة... والرابعة هي توجيه الأجهزة الإيديولوجية للدولة إلى أن ترسّخ في وعي المواطنين ? الرعايا ? أهمية الإجماع على ما تراه النخبة الحاكمة، بصفته اليقين الوحيد الذي هو قرين الإلحاح على مركزية القيادة التي يختزلها الحاكم الأوحد، الزعيم الملهم، رب العائلة، أو المهيب الركن، أو القائد الأوحد، واستبدال قواعد الوحدة ورفض الاختلاف بمبادئ الحرية وحق الاختلاف، وتأسيس التراتب الهرمي الصارم بين القيادات بصفته الوجه الملازم للتراتب العسكري، ومن ثم إلزام المرؤوس بالطاعة العمياء للرئيس في كل مجال، تأصيلاً لحضور البطريركية في المجتمع... وآخر هذه الخصائص التحالف مع القوى الدينية إذا لزم الأمر. فالدين بالملك يبقى، والملك بالدين يقوى، ولذلك إما أن تغض هذه الدولة النظر عن قمع السلطة الدينية، أو تجاريها، أو تسمح لها بالعبث بالدستور، أو الإسراف في تديين المواطنين، ما ظل الأمر في مصلحة الدولة التسلطية، وإلا فإعلان القطيعة والحرب. وكان أول نواتج هذه الخصائص الملازمة للدولة التسلطية، في مصر، طرد أكثر من خمسين أستاذاً من الجامعات مع أزمة آذار مارس 1954، أيام عبدالناصر والتحالف مع تيار الإسلام السياسي الذي سكت على طرد نحو مئة أستاذ وصحافي وعامل في أجهزة الإعلام في أزمة أيلول سبتمبر 1981، وقبلها طرد الإعلاميين الذين اتهموا بعلاقتهم بمراكز القوى التي انقلب عليها السادات عام 1971، وقبل ذلك السماح للأزهر بطرد أحد علمائه، بعدما اجتهد اجتهاداً مخالفاً عام 1955. الجامعة والسلطة والواقع أن التنكيل السياسي برجال الجامعة كان بلاء أصاب الجميع، فلم يحاول واحد منهم أن يفكر أو يكتب أو يجتهد أو ينشر اجتهاداً مخالفاً للجماعة التي أصبحت تنوب عن الدولة التسلطية. ويعني ذلك فرض التقليد على العلوم الدينية والمدنية. وعلى رغم ذلك صرخ طه حسين الشيخ صرخته الجسورة الأخيرة في ولاة الأمر في الدولة التسلطية، قائلاً:"لتصدقني الحكومة أن عليها للدين واجباً، وأنها تسرف على نفسها وعلى الناس إذا قصرت أو تأخرت في أداء هذا الواجب، وهو أن تحمي الناس من المحاكمة على آرائهم في العلم والدين، ومن عقابهم على الخطأ في العلم والدين أيضاً". ولكن لم يستمع أحد الى هذه الصيحة التي أطلقها طه حسين في الزمن الناصري مؤكداً أنه مات قبل أن يدرك أن الزمن الساداتي سيأتي بما هو أكثر وبالاً على الجامعة، فتحالف السادات مع الإخوان المسلمين قد يكون أفاده في تقليص نفوذ القوميين واليساريين، لكنه أصاب الليبراليين بالقدر نفسه، وأسلم لتيارات الإسلام السياسي مفاتيح الجامعة، فأشاعوا نوعاً من الإرهاب الديني، اقترن بالاعتداء على الأرواح والأجساد على السواء، وفرضوا التقليد والخوف من الاجتهاد الفكري الذي أصبح مغامرة لا تحمد عقباها. أما مفاهيم تحليل أو نقد الفكر الديني أو الخطاب الديني، فقد أصبحت إثماً لا بد من استئصال شأفة قائله والمشجع عليه على السواء، خصوصاً بعدما أفلحت نزعة التديين والتقليد في سجن نزعات التجديد العقلاني والابتكار في القوارير التي تسجن فيها العفاريت، كي يخلو الفضاء الجامعي لأهل التقليد والنقل، وورثة الفكر السلفي ذي الصلة العضوية بالإخوان المسلمين. في هذا المناخ الجامعي، تقدم نصر أبو زيد بإنتاجه العلمي إلى اللجنة الدائمة لترقية الأساتذة في الجامعات المصرية في التاسع عشر من أيار مايو عام 1992، وتم توزيع الإنتاج في الثامن والعشرين من الشهر نفسه وتشكلت لجنة لقراءة الإنتاج العلمي من شوقي ضيف ومحمود علي مكي وعوني عبدالرؤوف. أما الدكتور شوقي ضيف، رحمه الله، فقد كنت أعرف مدى محافظته، ورفضه تيار التجديد الذي كان يراني ممثلاً له في الأدب والنقد، ونصر ممثلاً له في درس الخطاب والتفكير الديني على السواء... وكنت أعرف من أستاذي شكري عياد، رحمه الله رفضه الشخصي الحاسم لمواقف شوقي ضيف المتعصبة التي كان يقرنها برجعية الفكر وانغلاقه، وقد أخبرني، ذات مرة، أن شوقي ضيف كان أحد الذين تسببوا في محنة أحمد محمد خلف الله، عندما كتب أطروحته الإشكالية"الفن القصصي في القرآن الكريم"ورفض قبولها للمناقشة لخروجها على المأثور من القواعد المألوفة في معالجة النصوص القرآنية، وقد تم إلغاء أطروحة خلف الله، زميل شكري عياد في التتلمذ على يدي أمين الخولي، فاضطر شكري عياد، إلى تغيير مساره في مدى البحث البلاغي، والاكتفاء بأطروحة الماجستير التي كانت تحليلاً أسلوبياً لمشاهد القيامة في القرآن الكريم، وانتقل إلى دراسة"تأثير كتاب الشعر لأرسطو في البلاغة العربية". أما خلف الله فاضطر، بعد نقله من الجامعة عقاباً له، إلى كتابة أطروحة جديدة عن صاحب"الأغاني"الأصفهاني وكان كلاهما، شكري عياد وأحمد محمد خلف الله، يحاولان تطبيق ما نادى به أستاذهما أمين الخولي باسم"المنهج الأدبي في درس النص القرآني"وما يترتب عليه من تغييرات منهجية. وللأسف، لم يكن نصر ولا أنا نعرف هذا التاريخ القديم لمواقف شوقي ضيف التي كتمها شكري عياد في نفسه، وكان كتوماً جداً، ولم يبح لي بها إلا بعد أن شكوت إليه من بعض ما كان يعاملني به أستاذي شوقي ضيف الذي لا أزال أجلّه كل الإجلال، فانفجر شكري عياد في وجهي بما كتمه طويلاً، وبما كتمته أنا عن نصر، ولم أخبره به إلى أن غادر الدنيا، عملاً بوصية المرحوم شكري عياد، حفاظاً على شكل العلاقات الإنسانية. وأجد نفسي في حلّ من هذه الوصية بعد رحيل الجميع، وبقائي وحدي، منتظراً اللحاق بهم وما لم أخبر به نصر كذلك ولا يعرفه أحد إلا أنا والدكتور محمود مكي وأحمد مرسي، مدّ الله في عمريهما، أن شوقي ضيف قرأ الإنتاج، فإذا به أمام منهج جديد لم يألفه من قبل، فضلاً عن أنه ما كان راضياً عن منهج الخولي ولا المتابعين له، فاتخذ موقفاً سلبياً من الإنتاج، وكتب تقريراً سلبياً ولكنه، تحسباً للأمور، ومعرفة منه بأنني رئيس القسم الذي ينتسب إليه، بعدما انتقلت الرئاسة إلي في تعاقب الأجيال، طلب لقاء محمود مكي الذي كان يعرف قربه مني وقرأ عليه التقرير، وطلب رأيه. والحق أن محمود مكي صارحه برأيه السلبي في تقريره الذي انتهى إلى رفض ترقية نصر، وأبلغه أن عوني عبدالرؤوف وهو، مد الله في عمريهما، انتهيا إلى الترقية في تقريرهما، وشعر المرحوم شوقي ضيف أنه سيكون في وضع محرج، فطلب من محمود مكي أن يناقش تقريره معي، سراً، بصفتي رئيساً للقسم الذي هو حريص على صورته فيه، ولا تزال هذه الصورة قائمة يجللها الاحترام، مهما كان الاختلاف الفكري. وجاءني محمود مكي بالتقرير في بيتي، جوار بيت شوقي ضيف، وقرأت التقرير، وانتهيت إلى أن الرفض قائم على أساس اختلاف المنهج والفكر... وبعد أن انتهيت من القراءة والتفكير، وانتهى مكي من سؤال سهير ابنتي، رحمها الله، عن أحوالها في الدراسات الإسبانية التي أسهم في إغرائها بها، سألت محمود مكي عن تقريره، فقال إنه يرى ترقية نصر لأن إنتاجه يستحق، وإذا كانت هناك هفوة هنا أو هفوة هناك، فهي لا تقلل من قيمة الإنتاج العلمي على الإطلاق، فما أكثر الذين تولت اللجنة ترقيتهم وهم أقل شأناً وقيمة، وحاولت أن أوضح للعزيز محمود مكي أن الترقية العلمية، تتم على أساس من قيمة الجهد والاجتهاد في المجال المنهجي، وأن الإنتاج العلمي يرقى لا الى اتفاقه مع آراء لجنة التحكيم أو منهجهم، فالأصح أن يرقى بسبب اجتهاده ومغايرة منهجه، وإلا ما تقدم البحث العلمي وأخبرني مكي أنه مقتنع بذلك، وأنه حاول إقناع شوقي ضيف، ولكنه لم يفلح بسبب رفضه الجذري لمناهجنا الجديدة التي تستعين بالهرمنيوطيقا والسيميوطيقا والبنيوية والتفكيكية، فقلت، إذاً، هو الخلاف الحتمي، وسأرفض تقريره في مجلس القسم، واثقاً بأن هناك من سيقف معي، فنحن ورثنا احترام تقاليد الاختلاف منكم، ولن نقبل أن تصرفونا أو نصرفكم عنها. وهنا، قال محمود مكي لا داعي لذلك كله، فلولا حرص شوقي ضيف على معرفة رأيك، ما أرسلني إليك، وأنا سأجد حلاً معه، أو أقنعه بتغيير التقرير. وبعد أيام، قابلت محمود مكي، فقال لي إن شوقي ضيف سينسحب من اللجنة الثلاثية، وأنه سيترك مكانه لعبدالصبور شاهين، وانتابني الوجوم، فأنا أعرف فكر عبدالصبور شاهين ومواقفه المعلنة، وانحيازه إلى جماعات الإسلام السياسي والتيارات السلفية، ولكنني قلت لنفسي: لا تتعجل الحكم، ودع الأمور تجري في أعنتها، وليرعَ الله إنتاج نصر في مواجهة أنياب الفكر السلفي المتزمت.