كان قرار مجلس جامعة القاهرة فى 18/3/1993 بالموافقة على تقرير اللجنة العلمية برفض ترقية نصر أبو زيد بمثابة استسلام إلى ضغوط تيار التأسلم السياسي داخل جامعة القاهرة وخارجها على السواء. ولولا ذلك ما كان يمكن لمجلس علمي، يتكون من صفوة العلماء، أن يتغاضى عن اللغة غير العلمية لتقرير الرفض الذي اعتمدته لجنة الترقيات، أو يتجاهل الاعتراضات الجذرية والتصويبات التي لا تقبل الجدل في التقرير المضاد الذي أعدّه ووافق عليه بالإجماع مجلس قسم اللغة العربية، فضلاً عن التقرير المؤازر الذي أعدَّه ووافق عليه بالإجماع كذلك مجلس كلية الآداب. ولم يكن هناك من معنى لعدم اطلاع أعضاء مجلس الجامعة على أي تقرير إلا وجود رغبة مسبقة في إغلاق أبواب النقاش حول الموضوع، وتعمد مقصود في الوصول إلى نتيجة ترضي جماعات الضغط المتأسلم على نحو مباشر أو غير مباشر، أو على الأقل تجنّب رئاسة الجامعة حرج أو خطر مواجهتها. ولذلك فإن هذا القرار بقدر ما كان نكوصاً عن التقاليد الجامعية العلمية، وتخلياً عن الهدف الجذري لمبادئ البحث العلمي وأصوله، كان هزيمة للتيارات المدنية داخل الجامعة وخارجها. وكان من الطبيعي أن يعبّر المنتسبون إلى هذه التيارات عن إحباطهم وعن رفضهم للقرار. أما في داخل الجامعة، فقد أصدر أساتذة كلية الآداب بياناً صاغوا فيه احتجاجهم على قرار مجلس الجامعة الذي رأوه متحيزاً ومغرضاً، كما صاغوا مخاوفهم من حيث هم أساتذة تُنتهك المؤسسات التي يعبرون من خلالها عن آرائهم. ولم يفتهم إدانة التقرير الذي يتهم زميلاً لهم بالكفر والإلحاد، ويشكّك في عقيدته بكلمات وعبارات لا تمت للتقييم العلمي بصلة، وذلك بدلاً من تقييم الإنتاج العلمي لهذا الزميل وفقاً لأسس التقييم الموضوعية المتعارف عليها، ووفقاً لما تنص عليه قواعد نظام العمل في اللجان العلمية الدائمة الصادرة عن المجلس الأعلى للجامعات. وقد حذا الباحثون الشبان من المعيدين والمدرسين المساعدين ومدرسي اللغة حذو أساتذتهم، فتقدموا إلى رئيس جامعة القاهرة ببيان أكثر حدة في نبرة احتجاجه ورفضه، معلنين أن قواعد نظام العمل في اللجان العلمية المنصوص عليها من المجلس الأعلى للجامعات لم تتبع، وأن التقرير الذي صدر باسم اللجنة العلمية يخالف هذه القواعد التي لم تنص، صراحة أو ضمناً، على أن العقيدة تمثل معياراً من معايير التقييم العلمي، وأن كلاً من تقرير اللجنة وموقف إدارة الجامعة الذي سانده واعتمده، من دون أن يكترث بكل من تقريري مجلس أساتذة قسم اللغة العربية ومجلس أساتذة كلية الآداب، يُعَدُّ انتهاكاً صريحاً وعدواناً بيّناً على قواعد العمل المنظمة للجان العلمية، ويُمَثِّل سابقة خطيرة في تاريخ جامعة القاهرة. ويضيف التقرير خوفاً أخذ يخامر هؤلاء الباحثين الشبان من أن يكون استخدام مناهج البحث المعاصرة، بما تتضمنه من مصطلحات ومفاهيم جديدة غريبة بالنسبة للعقليات التقليدية الجامدة، مبعث ريبة وشك عند بعض أعضاء لجان الترقيات الذين لا يتابعون تطور المناهج المعاصرة وتقدمها، الأمر الذي يجعل إمكان تحديث البحث العلمي في مصر ومواكبة المعرفة العلمية المعاصرة محكوماً عليهما بالفشل. ويمضي الباحثون الشبان في بيانهم، مؤكدين عظيم احترامهم للأديان كلها. وفى الوقت نفسه، خشيتهم من أن تكون هناك مقامرة بتاريخ جامعتهم وبشرفهم العلمي لحساب مجموعة من المصالح الصغيرة، أو المخاوف التي لا تليق بالتقاليد العلمية للجامعات العريقة. وأتصور أن هذه كانت المرة الأولى التي يصل فيها الاحتجاج على قرار مجلس الجامعة برفض ترقية أستاذ إلى درجة كتابة بيانات مضادة للقرار، وتجمعات محتجة عليه، داخل الجامعة، وذلك بسبب استفزاز القرار لجانب لا يستهان به من الرأي العام الجامعي الذي ترامت إليه أنباء هذه الترقية وملابساتها. وكان القرار من منظور هذا الجانب تعبيراً عن تخلي إدارة الجامعة عن القيم العلمية التي جاهد الجامعيون الرواد في تأصيلها، دفاعاً عن استقلال الجامعة ضد قوتين لا تزالان تضغطان عليها: قوة الدولة التي تسعى، دائماً، إلى التدخل السياسي في الشؤون الجامعية، ابتداء من أعداد الطلاب وانتهاء بفصل الأساتذة، وقوة التعصب الديني التي لم تكف عن مناوشة الجامعة منذ إنشائها، ومنذ أن أصبحت مركز الثقل للمعرفة المدنية الصاعدة لمؤسسات المجتمع المدني وتطلعاته. وأحسب أن سخط الطليعة الجامعية على موقف الإدارة المتخاذل أمام ضغط التعصب الديني، واستسلامها لشروطه، قد دفع هذه الطليعة إلى استرجاع مواقف رجال من أمثال أحمد لطفي السيد وعبدالخالق ثروت وعدلي يكن وطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهم من الذين أرسوا القواعد الأولى لمعنى الجامعة، وقاوموا ضغوط هذا التعصب مقاومة مجيدة أسهمت في ترسيخ التقاليد الجامعية الأصيلة. وأحسب كذلك أن هذا السخط استدعى في ذاكرة الطليعة الجامعية المعارك التي فرض بها هذا التعصب بعض مواقف التراجع على الجامعة في تاريخها الممتد. وهو التاريخ الذي شهد إغلاق القسم النسائي سنة 1911 بسبب تعصب المتعصبين، وشهد فصل منصور فهمي بعد ذلك بسنوات قليلة بسبب أطروحته عن "المرأة في الإسلام"، وقبل ذلك بقليل إلغاء التعاقد مع جرجي زيدان لتدريس تاريخ التمدن في الإسلام بسبب أنه مسيحي، وذلك في السلسلة نفسها التي ضمّت ما عاناه طه حسين بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي". وهي السلسلة التي امتدت حلقاتها إلى محمد أحمد خلف الله بسبب أطروحته التي رُدَّتْ عن "القص في القرآن"، ووصلت إلى منع ترقية نصر أبو زيد بسبب نهجه الاعتزالي في نقد الخطاب الديني. ولذلك واصلت الطليعة الجامعية سعىها، داخل الجامعة، إلى تغيير الأوضاع بما لا يهدد مستقبل البحث العلمي. ولحسن الحظ، واتت رياح التغيير آمال هذه الطليعة، فخرج رئيس جامعة القاهرة الدكتور مأمون سلامة من منصبه بسبب بلوغه السن القانوني، وجاء رئيس جديد للجامعة هو الدكتور مفيد شهاب الذي نظر إلى القضية من منظور مغاير، خصوصاً بعد أن اتخذت القضية أبعاداً عالمية إلى جانب أبعادها المحلية والقومية، وفي ظل شروط مختلفة ارتبطت بمتغيرات حكومية جديدة، أهمها رفض محاولات التوسط للمصالحة بين الحكومة ومجموعات التطرف الديني، ومن ثم إزاحة المسؤولين عن هذه المحاولات، وعلى رأسهم وزير الداخلية وكل المتصلين به في هذا الشأن. وكان تغيير تشكيل اللجنة العليا للترقيات بالجامعات المصرية، في شهر كانون الثاني يناير سنة 1995 علامة دالة على تغيير جديد واعد، خصوصاً بعد أن اكتسبت اللجنة السابقة سمعة سيئة لم تتخلص منها قط. وأذكر أن رئيس اللجنة القديمة، أستاذنا الدكتور شوقي ضيف، كان يلح على نصر أبو زيد ليتقدم بإنتاجه مرة أخرى إلى اللجنة نفسها، ولكن نصر ظل على رفضه الصارم للحوار مع أحد حول إمكان التقدم إلى هذه اللجنة التي أساءت إلى نفسها، قبل أن تسيء إلى تقاليد الجامعة، يوم وافقت على تقرير التكفير الذي كتبه عبدالصبور شاهين. وكان من الطبيعي أن يغدو الموقف مختلفاً، بعد أن تغيرت لجنة الترقيات جذرياً، وذهبت منها إلى الأبد الشخصيات التي اعتمدت التكفير نهجاً في النظر، ودخلت إليها للمرة الأولى شخصيات تقدر البحث العلمي حق قدره، وتعرف معنى القيم العلمية والتقاليد الجامعية التي لا ينبغي الانحراف بها عن غاياتها الجليلة. وكان من نتيجة ذلك أن تقدم نصر أبو زيد إلى اللجنة الجديدة بالأعمال التي رآها صالحة لتمثيل إنتاجه الغزير. وتقوم اللجنة - بعد أن أحالت كلية الآداب الإنتاج إليها بتاريخ 21/2/1995- بتشكيل لجنة ثلاثية، مكوّنة من محمود علي مكي ومصطفى مندور ومصطفى الصاوي الجويني. وكان ذلك بحسب تقاليد اللجنة الدائمة التي درجت على أن تضع في اللجنة الثلاثية - في حال التقدم مرة ثانية للترقية - عضواً من اللجنة الأولى. وكان الأستاذ الدكتور محمود علي مكي هو هذا العضو بإجماع أعضاء اللجنة الدائمة. وتابعت اللجنة الثلاثية عملها إلى أن فرغت منه، وكتب الأعضاء الثلاثة تقارير إيجابية تشيد بالإنتاج الذي تَكوَّنَ هذه المرة من تسعة أبحاث، أهمها بحث جديد عن "القرآن: العالم بوصفه علامة" وبحث ثان عن "الرؤيا في النص السردي العربي"، وبحثان قديمان "مركبة المجاز" و"التأويل في كتاب سيبويه"، وبحوث جديدة عن "اللغة الدينية والبحث عن ألسنية جديدة" و"مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق" و"عدسة الناقد الحداثي" و"التفكير في زمن التكفير" و"المرأة في خطاب الأزمة". وفحصت اللجنة الدائمة تقارير المحكمين الثلاثة التي وردت ما بين العاشر والعشرين من نيسان أبريل. وانتهت في جلستها المنعقدة في السابع والعشرين من نيسان إلى الأخذ بتقرير الأستاذ الدكتور محمود علي مكي ليعبّر في مجمله عن رأيها الجماعي، وتقرر استبعاد عملين هما: "التفكير في زمن التكفير" و"المرأة في خطاب الأزمة"، وذلك لعدم صلتهما بالبحث العلمي الأكاديمي في قسم اللغة العربية وآدابها. ورأت اللجنة، في السابع والعشرين من نيسان ابريل 1995، أن الإنتاج المقدم الباقي يكفي لترقية نصر أبو زيد لدرجة أستاذ في قسم اللغة العربية وآدابها بجدارة. وكان تقرير اللجنة ينتهي على النحو الآتي: "وبعد، فإننا بعد أن استعرضنا الأعمال التسعة للدكتور نصر حامد أبو زيد، كل عمل على حدة، وبعد تقويمنا لكل منها، نخلص إلى هذه النتيجة، وهي أن جهده العلمي المتنوع الخصب يقدمه لنا باحث راسخ القدم في مجال البحث العلمي، قارئاً مستوعباً لتراثنا الفكري الإسلامي محيطاً بفروعه المختلفة ما بين الدراسات الإسلامية من أصول وعلم كلام وفقه وتصوف ودراسات قرآنية وبلاغة وعلم لغة. وهو مع تعمقه في دراسة هذا التراث لا يقف أمامه مكتوف الذراعين، بل يتخذ منه موقفاً نقدياً صريحاً. ولكنه لا ينتقد إلا بعد أن يستوعب القضايا التي يتعرض لها، ويستقصي بحثها، ويستعين في هذا البحث بالمناهج القديمة والحديثة. وهو بعد ذلك مفكر متحرر لا يتوخى إلا الحقيقة، وإذا كان في أسلوب تناوله لبعض القضايا شيء من الحدة، فإن ذلك يرجع إلى حدة الأزمة التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي المعاصر، مما يقتضي أن تشخّص أمراضه وعيوبه في صراحة، حتى يكون علاج تلك الأمراض على أساس سليم. والبحث الأكاديمي الجامعي لا ينبغي أن يكون في عزلة عن مشكلات المجتمع، وإنما يجب أن يشارك في مناقشة هذه المشكلات واقتراح الحلول لها بقدر ما يسع الباحث اجتهاده. ومن هنا فإننا نرى أن هذا الإنتاج كفيل بأن يرقى به الدكتور نصر حامد أبو زيد إلى درجة أستاذ بكل جدارة. ومن الله نستمد العون ونستلهم التوفيق". وأرسلت اللجنة بتقريرها النهائي إلى مجلس الكلية الذي وافق عليه - بعد موافقة القسم - في جلسته التي انعقدت في العشرين من أيار مايو سنة 1995، وبعد ذلك وافق عليه مجلس الجامعة برئاسة الدكتور مفيد شهاب في يوم الأربعاء أول شهر حزيران يونيو من السنة نفسها. ونال نصر أبو زيد حقه في الترقية التي كان يستحقها منذ المرة الأولى، لكن بعد أن أصبحت هذه الترقية مشكلة تشغل الرأي العام خارج الجامعة، وتثير من الجدل ما يزال يشغل الحياة الثقافية إلى اليوم.