ظاهرياً، ينتمي نصر حامد أبو زيد إلى النسق الفكري الإسلامي التنويري، وهو ليس بالشيء الغريب، فقد نشأ في بيئة مسلمة، تشرب من خلالها وعيه الديني بعفوية التربية البسيطة لأسر مجتمعاتنا. بيد أن لعلاقة أبو زيد مع الدين وجه آخر. فأبو زيد وهو ابن ثورة 1952 والمنتمي إليها بكل السلب والإيجاب، الذي كانته، سيشهد في عام 1954 موجة اعتقال الأخوان المسلمين، على أثر محاولة اغتيال جمال عبدالناصر الفاشلة، ويروي أبو زيد:"أنه تم اعتقال أناس في قريتنا، لا يمكن أن تكون لهم أية علاقة بتلك المحاولة.. قلت: الناس الذين حاولوا الاعتداء على حياة عبدالناصر يستحقون القتل، ولكن لماذا هؤلاء؟ من هنا بدأ تعاطفي مع الأخوان المسلمين، وبدأت قراءة سيد قطب". بيد أن المنحى الذي ستأخذه الأحداث في ما بعد، ستضع أبو زيد على ضفة أخرى. ففي هذه الأثناء ستبتلى الأمة بالهزيمة الكبرى، وسيليها وفاة عبدالناصر، وستفرض المرحلة بمعطياتها، على جميع من سايروها مجموعة من الأسئلة والإشكالات الجديدة. في هذه المرحلة تحديداً وفي ظل هذا المناخ، سيبدأ فكر أبو زيد التاريخي بالتكون، فهو الذي لن يقبل أبداً" مقولة أن سبب الهزيمة هو الابتعاد عن الدين"بل سيحاول بلورة إجاباته الخاصة متسلحاً بالنقد الذي كان سلاحه الوحيد. وسيرى في غياب الشعب وغياب المشاركة وغياب الديمقراطية، سبباً حاسماً في الهزيمة، وليس الابتعاد عن الإسلام. في عام 1968 سيدخل أبو زيد الجامعة وكان الشارع العربي في تلك الأثناء يغلي بالتناقضات والصراعات الاجتماعية. في هذا المناخ بالتحديد سيبلور تساؤلاته الأولى: ماذا يعني الإسلام؟ هو دين الاشتراكية والعدالة أم هو دين حماية الملكية الفردية والسلام؟ هل هو دين الجهاد ضد العدو الصهيوني والاستعمار والامبريالية أم هو دين السلام؟ في الحقيقة كان يكفي أن يبدأ أبو زيد بطرح تساؤلاته هذه حتى يبدأ بإخضاع كل شيء للشك وبعدها للنقد. في ضوء هذه الأحداث، سيبدأ أبو زيد العمل على إنجاز الماجستير، والذي سيكون موضوعه"قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة"وهو خيار لم يكن بريئاً حيث دلالات موضوعه واضحة كونها راحت تعكس تطور فكر الباحث والأفق الذي راح يختطه. هنا سنجد تركيز أبو زيد على الاتجاه العقلي في التفسير وكان بذلك يعلن عن نفسه كونه باحثاً منحازاً للعقل وللإنسان الحامل التاريخي لهذا العقل. إذن منذ بداياته الأولى سينشغل أبو زيد بالإنسان وبالتاريخ المحيط بهذا الإنسان،" إذ لا بد للمعنى الإنساني أن ينبثق في التاريخ لا بد للمقدس أن يتأنسن"كما كان يردد. في كتابه"الاتجاه العقلي في التفسير.."سيركز الباحث على مسألة حاسمة الأهمية، هنا سيعود الباحث إلى قراءة الخلافات والانشقاقات الدينية من منظور تاريخي. فالتقسيمات والانشقاقات الدينية في بداياتها الأولى لم تنبن على أساس ديني ولئن تقنعت بهذا الأخير. كما أن الخلاف الظاهر بين الطوائف المتنازعة حول تأويل العقائد، لا يعدو كونه مظهراً ومظهراً فقط للأساس الموضوعي ? أي التاريخي- الذي انبنت عليه هذه التقسيمات"ذلك أن الفكر لا ينشأ من فراغ، وليس مستقلاً عن الظروف الموضوعية ?الاجتماعية والسياسية- التي يكون هذا الفكر نفسه استجابة لها، في محاولة للتصدي لها تغييراً أو تأييداً. ومن هذه البدايات الأولى لتبلور فكر الباحث يستطيع القارئ، تلمس جرأة الباحث وإصراره على التسلح بالفكر النقدي. جوهر ما توصل إليه الكاتب اكتشافه أن جوهر الخطاب الديني وكذلك السياسي المرتبط به، ينبثق من ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، ويتساءل: من يمتلك جرأة الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة؟ ألا تقود هذه الرؤية إلى مقولة التكفير سيئة الصيت؟ في الحقيقة لم يترك كتاب نقد الخطاب الديني لأبو زيد صديقاً، تركه عارياً وحيداً في مواجهة الجميع. لم يكن نصر حامد أبو زيد شخصاً عادياً في أي حال من الأحوال، وذلك حتى لو اختلفنا حول إنتاجاته المعرفية، كان كادحاً تشرّب مرارة القهر والظلم الاجتماعي، وشغله منذ وقت مبكر سؤال العدالة التاريخي، وبذل كل الجهد في سبيل صوغ إجابات متسقة ترضي نهمه للمعرفة ونبذه للبداهات، وأما النتيجة المترتبة على هذا الكفاح فقد كانت نفياً عن وطنه الذي كفّر فيه وطلق من زوجه، نفياً عن الجامعة التي كان يدرس فيها، ويزرع حديقته الصغيرة، نفياً عن هذا المكان ? الجحيم المدعو وطننا العربي. إن نصر حامد أبو زيد، وهو الذي من الصعب أن نجد شبيهاً له في اللحظة الراهنة، كان قد فتح ثغرةً في الأفق، أفق العقل، وقدم نفسه مدافعاً لا يستكين عن البحث وحرية التفكير. وهو سياق حداثي بامتياز أعلن أبو زيد انتماءه الأصيل إليه. في هذه الأثناء يتوقف عقل هذا المفكر الكبير عن العمل إذ يباغته الموت المتربص بنا في كل منعطف، بيد أن الطريق الذي شقه لا يزال مفتوحاً أمامنا نحن الأجيال المقبلة منذ قليل إلى الحياة وإلى واقعنا العربي الذي لم يعد واقعاً مقبولاً بأي حال، لقد ترك أبو زيد خلفه فكرةً لامعة رددها دائماً بمتعة المفكر الشغف:"نحن نختلف حول المعنى، ولا نختلف حول المطلق، لأن المطلق لا أحد يعرفه". صبر درويش - سورية - بريد الكتروني