أراه كل يوم وأنا ذاهب إلى عملي. يأتي مبكراً قبل أن أمرّ عليه. ويكون قد وضع منضدته الخشبية أمام مصلحة الجوازات والهجرة. ربما اختارها من بين المصالح الحكومية الأخرى لكثرة الناس حولها من العمال البسطاء الباحثين عن فرصة للهروب من الوضع القائم والمتعسر دوماً في البلاد. دائماً ما يضع خلفه لوحة من الورق المقوى. ربما كتبها بنفسه. فالخط فيها مهتز يميل إلى الأسفل ويعود. يسندها إلى الحائط وقد كتب عليها"هنا قسم الشرطة". على المنضدة تستقر لوحة أصغر كتب عليها اسمه ومن تحته"مساعد أول في وزارة الداخلية". هو في قعدته المعتادة خلف المنضدة لا يزال يرتدي زيه الميري. على رغم معرفتي بتقاعده من الخدمة، إلا أنه يصر على أنه لا يزال فيها. يصرخ إذا اقترب منه أحد المارة ليسأله عن شيء: - نظام. كله بالنظام يا بقر. وأكون قد تجاوزته حين يبدأ شجاره مع السائل وقد التف بعض المارة ليفصلوا بينه وبين الرجل وهو يهدد ويتوعد بأنه لن يتركه إلا في المعتقل. ويصلني صوته ضعيفاً قبل أن يهدأ وهو يعود إلى قعدته خلف المنضدة: - شعب جبان... النظام يحكم يا بهايم. هنا قسم شرطة مش زريبة. في عودتي أراه على حاله. يجذب نحوه أحياناً بعض الصبية من أطفال الشوارع. يكوّن منهم طابوراً بعد أن يخيفهم بزيه الميري وصراخه الذي لا يتوقف وهو يضربهم بعصا يمسكها دائماً. يقف مشيراً اليهم برأسه: - انتباه. نظام يا شعب يخاف ما يختشي. كلب أجرب يقف في الناحية الأخرى من الشارع. يضربه بعنف كلما حاول الاقتراب من مجاله. أتركه وأمضي من دون أن ألتفت إليه. وحين تقع عيني عليه أتحاشى نظرته. أشعر وكأنه يحتقرني. شيء ما في نظرته المتعالية يجعل من ينظر إليه يخشاه. زيه الميري ? على رغم قذارته - يكسبه هيبة. وأسأل بعض الزملاء عنه. ويقول إنه جنّ بعد التقاعد. ويقول آخر إن جميع الضباط في القسم يعرفونه وأن أحداً لم يعترض على ارتدائه الزي الميري على رغم تقاعده. وأحاول جاهداً حين أمرّ عليه أن أبتعد منه، ربما أصابتني عصاه أو قذفني بكلمة قبيحة من كلماته التي يوزعها على المارة طول النهار. حتى ان كثيراً منهم تعود عليه فلا يرد حين يسبّه. ويأتي اليوم الذي أمر ولا أجده، وأقول: ربما تأخر. غير أنني حين أعود لا أجده. فأؤكد لنفسي أنه سيأتي في اليوم التالي. أسبوع مر ولم أره، وقد خلا المكان تماماً إلا من اللوحة الورقية التي كتب عليها"هنا قسم الشرطة". تستند إلى الحائط وقد غطاها التراب، وبهت لونها. الكلب الأجرب رأيته يقترب منها. حك جسده فيها بجنون حتى أدماه والتصق دمه باللوحة. توقفت لأراقبه. أتخيل لو أن الرجل عاد ورآه فلا بد من أنه سيقتله. فهو لم يكن يسمح لأحد بالاقتراب من مكانه. وحين لاحظ الكلب أنني أراقبه، كف عن حك جسده باللوحة ووقف مقوس الظهر في استكانة. رفع رجله نحو اللوحة وبال عليها. ابتسمت وأنا أراه ينفض جسده. أخذ يمزقها بأظفاره في إصرار. وقفت للحظة ناظراً نحوه. وحين عدت إلى السير رأيته يسلك طريقه مبتعداً منها. غير أنه كان يقف للحظة ناظراً نحوها. ثم يعاود السير. نشر في العدد: 17140 ت.م: 09-03-2010 ص: 26 ط: الرياض